التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ
٨٧
-البقرة

روح البيان في تفسير القرآن

{ ولقد آتينا } اى بالله لقد اعطينا يا بنى اسرائيل { موسى } لغة عبرانية قد سبق تفصيله عند قوله تعالى { { وإذ واعدنا موسى } البقرة: 51] الآية.
{ الكتاب } اى التوراة جملة واحدة { وقفينا من بعده بالرسل } يقال قفاه به اذا اتبعه اياه اى اتبعنا من بعد موسى رسولا بعد رسول مقتفين اثره وهم يوشع وشمويل وداود وسليمان وشمعون وشعيا وارميا وعزيز وحزقيل والياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم عليهم السلام { وآتينا عيسى } بالسريانية اليسوع ومعناه المبارك والاصح انه لا اشتقاق له ولأمثاله فى العربية { ابن } باثبات الالف وان كان واقعا بين العلمين لندرة الاضافة الى الام { مريم } بالسريانية بمعنى الخادمة والعابدة قد جعلتها امها محررة لخدمة المسجد ولكمال عبادتها لربها سماها الحق تعالى فى كتابه الكريم مع الانبياء عليهم السلام سبع مرات وخاطبها كما خوطب الانبياء كما قال تعالى
{ { يا مريم اقنتى لربك واسجدى واركعى مع الراكعين } [آل عمران: 43].
فشاركها مع الرجال { البينات } المعجزات الواضحات من احياء الموتى وابراء الاكمه والابرص والاخبار بالمغيبات والانجيل { وأيدناه } اى قويناه { بروح القدس } من اضافة الموصوف الى الصفة اى بالروح المقدسة المطهرة وهى روح عيسى عليه السلام وصفت بالقدس للكرامة لان القدس هو الله تعالى او الروح جبريل ووصف بالطهارة لانه لم يقترف ذنبا وسمى روحا لانه كان يأتى الانبياء بما فيه حياة القلوب ومعنى تقويته به انه عصمه من اول حاله الى كبره فلم يدن منه الشيطان عند الولادة ورفعه الى السماء حين قصد اليهود قتله وتخصيص عيسى من بين الرسل ووصفه بايتاء البينات والتأييد بروح القدس لما ان بعثتهم كانت لتنفيذ احكام التوراة وتقريرها واما عيسى فقد نسخ بشرعه كثير من احكامها وحسم مادة اعتقادهم الباطل فى حقه ببيان حقيقته واظهار كمال قبح ما فعلوا به وما بين موسى وعيسى اربعة آلاف نبى وقيل سبعون الف نبى { أفكلما جاءكم } خاطب اهل عصر النبى عليه السلام بهذا وقد فعله اسلافهم يعنى لم يوجد منهم القتل ان وجد الاستكبار لانهم يتولونهم ويرضون بفعلهم والفاء للعطف على مقدر يناسب المقام اى ألم تطيعوهم فكلما جاءكم { رسول بما لا تهوى } اى لا تريد { أنفسكم } ولا يوافق هواكم من الحق الذى لا انحراف عنه { استكبرتم } اى تعظمتم عن الاتباع له والايمان بما جاء به من عند الله { ففريقا } منهم { كذبتم } كعيسى ومحمد عليهما السلام { وفريقا تقتلون } كزكريا ويحيى وغيرهما عليهم السلام.
وقدم فريقا فى الموضعين للاهتمام وتشويق السامع الى ما فعلوا بهم لا للقصر ولم يقل قتلتم وان اريد الماضى تفظيعا لهذه الحالة فكأنها وان مضت حاضرة لشناعتها ولثبوت عارها عليهم وعلى ذريتهم بعدهم او يراد وفريقا تقتلونهم بعد وانكم على هذه النية لانكم حاولتم قتل محمد عليه الصلاة والسلام لولا انى اعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة.
حتى قال عليه السلام عند موته
"ما زالت اكلة خيبر تعاودنى" .
اى يراجعنى اثر سمها فى اوقات معدودة "فهذا او ان قطعت ابهرى" .
وهو عرق منبسط فى القلب اذا انقطع مات صاحبه.
وقصته انه لما فتحت خيبر وهو موضع بالحجاز اهديت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شاة فيها سم فقال رسول الله
"انى سائلكم عن شىء فهل انتم صادقى فيه قالوا نعم يا ابا القاسم قال هل جعلتم فى هذه الشاة سما قالوا نعم قال فما حملكم على ذلك قالوا اردنا ان كنت كاذبا ان نستريح منك وان كنت صادقا لم يضرك" .
واعلم ان اليهود انفوا من ان يكونوا اتباعا وكانت لهم رياسة وكانوا متبوعين فلم يؤمنوا مخافة ان تذهب عنهم الرياسة فما دام لم يخرج حب الرياسة من القلب لا تكون النفس مؤمنة بالايمان الكامل وللنفس صفات سبع مذمومة العجب والكبر والرياء والغضب والحسد وحب المال وحب الجاه ولجهنم ايضا ابواب سبعة فمن زكى نفسه عن هذه السبع فقد اغلق سبعة ابواب جهنم ودخل الجنة واوصى ابراهيم بن ادهم بعض اصحابه فقال كن ذنبا ولا تكن رأسا فان الرأس يهلك والذنب يسلم: قال فى المثنوى

تاتوانى بنده شو سلطان مباش زخم كش جون كوى شوجوكان مباش
اشتهار خلق بند محكمست در ره اين از بند آهن كى كم است

وعن بعض المشايخ النقشبندية انه قال دخلت على الشيخ المعروف بدده عمر الروشنى لعيادة فوجدته متغير الحال بسبب انه داخله شىء من حب الرياسة لانه كان مشهورا فى بلدة تبريز مرجعا للاكابر والاصاغر فنعوذ بالله من الحور بعد الكور.
وفى شرح الحكم ادفن وجودك اى ما يكون سبب ظهور اختصاصك بين الخلق من علم او عمل او حال فى ارض الخمول التى هى احد ثلاثة امور.
احدها ان ترى ما جبلت عليه من النقص فلا تعتد بشىء يظهر منك لعلمك بدسائسك وخباثة نفسك.
الثانى ان تنظر اليك من حيث انت فلا ترى لائقا بك الا النقص وتنظر الى مولاك فتراه اهلا لكل كمال فكل ما يصدر لك من احسان نسبته اليه اعتبارا بما انت عليه من خمول الوصف.
الثالث ان تظهر لنفسك ما يوجب نفى دعواها من مباح مستبشع او مكروه لم يمنع دواء لعلة العجب لا محرما متفقا عليه اذ كما لا يصح دفن الزرع فى ارض رديئة لا يجوز الخمول فى حالة غير مرضية.