التفاسير

< >
عرض

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ
٢٨
وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ
٢٩
-الأنبياء

روح البيان في تفسير القرآن

{ يعلم } الله تعالى اى لا يخفى عليه { ما بين ايديهم } ما قدموا من الاقوال والاعمال { وما خلفهم } وما اخروا منهما وهو الذى ما قالوه وما عملوه بعد فيعلمهم باحاطته تعالى بذلك ولا يزالون يراقبون احوالهم فلا يقدمون على قول او عمل بغير امره تعالى فهو تعليل لما قبله وتمهيد لمابعده { ولا يشفعون } الشفع ضم الشئ الى مثله.
والشفاعة الانضمام الى آخر ناصرا له وسائلا عنه واكثر ما يستعمل فى انضمام من هو اعلى مرتبة الى من هو ادنى ومنه الشفاعة فى القيامة { الا لمن ارتضى } ان يشفع له من اهل الايمان مهابة منه تعالى وبالفارسية [مكر كسى كه خدى بشفاعت به بسندد اورا] قال ابن عباس رضى الله عنهما الا لمن قال لا اله الا الله.
فلا دليل فيه للمعتزلة فى نفى الشفاعة عن اصحاب الكبائر.
قال فى الاسئلة المقحمة هذا دليل على ان لا شفاعة لاهل الكبائر لانه لا يرضى لهم والجواب قد ارتضى العاصى لمعرفته وشهادته وان كان لا يرتضيه لفعله لانه اطاعه من وجوه وان عصاه من وجوه اخر فهو مرتضاه من جوه الطاعة له ولهذا قال ابن عباس رضى الله عنهما الذى ارتضاهم هم اهل شهادة ان لا اله الا الله: وفى المثنوى

كفت بيغمبركه روز رستخيز كى كذارم مجرما نرا اشك ريز
من شفيع عاصيان باشم بجان تارهانم شان زاكشنجه كران
عاصيان واهل كبائررا بجهد وارهانم ازعتاب نقض عهد
صالحان امتم خود فارغند از شفاعتهى من روز كزند
بلكه ايشانرا شفاعتها بود كفتشان جون حكم نافذمى رود

{ وهم } مع ذلك { من خشيته } اى من خشيتهم منه تعالى فاضيف المصدر الى مفعوله { مشفقون } مرتعدون [يا ازمهابت وعظمت اوترسان] والاشفاق عناية مختلطة بخوف لان المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه كما فى المفردات.
قال ابن الشيخ الخشية والاشفاق متقاربان فى المعنى والفرق بينهما ان المنظور فى الخشية جانب المخشى منه وهو عظمته ومهابته وفى الاشفاق جانب المخشى عليه وهو الاعتناء بشأنه وعدم الامن من ان يصيبه مكروه ثم ان الاشفاق يتعدى بكل واحد من كلمتى من وعلى يقال اشفق عليه فهو مشفق واشفق منه اى حذر فان عدى بمن يكون معنى الخوف فيه اظهر من معنى الاعتناء وان عدى بعلى يكون معنى الاعتناء اظهر من معنى الخوف.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه رأى جبريل ليلة المعراج ساقطا كالحلس من خشية الله تعالى.
وعنه ايضا ان اسرافيل له جناح بالمشرق وجناح بالمغرب والعرش على جناحه وانه ليتضاءل الاحيان حتى يعود مثل الوضع وهو بالسكون ويحرك طائر اصغر من العصفور كما فى القاموس

خوف وخشيت حليه اهل دلست امن وبى بروايئ شان غافلست

حينئذ { ومن يقل }[وهركه كويد]{ منهم }اى من الملائكة { انى اله من دونه } اى حال كونه متجاوزا اياه تعالى { فذلك } الذى فرض قوله فرض محال فهذا لا يدل على انهم قالوه.
وقال بعضهم هو ابليس حيث ادعى الشركة فى الالوهية ودعا الى عبادة نفسه وفيه انه يلزم ان يكون من الملائكة { نجزيه جهنم } كسائر المجرمين ولا يغنى عنهم ما ذكر من صفاتهم السنية وافعالهم المرضية وهو تهديد للمشركين بتهديد مدّعى الربوبية ليمتنعوا عن شركهم { كذلك نجزى الظالمين } مصدر تشبيهى مؤكد لمضمون ما قبله اى مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزى الذين يضعون الاشياء فى غير مواضعها ويتعدون اطوارهم بالاشراك وادعاء الالهية. والقصر المستفاد من التقديم معتبر بالنسبة الى النقصان دون الزيادة اى لا جزاء انقص منه والجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة ان خيرا فخير وان شر فشر يقال جزيته كذا وبكذا.
وفى التأويلات النجمية يشير بقوله
{ لا يسبقونه بالقول } الى انهم خلقوا منزهين عن الاحتياج الى مأكول ومشروب وملبوس ومنكوح وما يدفع عنهم البرد والحر وما ابتلاهم الله بالامراض والعلل والآفات ليسبقوا الله بالقول ويستدعوا منه رفعها وازالتها والخلاص منها بالتضرع وكذلك ا ابتلاهم الله بطبيعة تخالف اوامر الله تعالى فيمكن منهم خلاف ما يؤمرون { وهم بامره يعملون } نظيره { لا يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما يؤمرون } ولعمرى انهم وان كانوا مكرمين بهذه الخصال فان بنى آدم فى سر { ولقد كرمنا بنى آدم } آكد المكرمين منهم بكرامات اكبر منها درجة وارفع منها منزلة وذلك لانهم لما خلقوا محتاجين الى ما لا تحتاج اليه الملائكة اكرموا بالكرامتين اللتين لم تكرم بهما الملائكة فاحدهما الرجوع الى الله مضطرين فيما يحتاجون اليه فاكرموا بكرامة الدعاء ووعدهم عليه الاستجابة بقوله { ادعونى استجب لكم } فلهم الشركة مع الملائكة فى قوله { لا يسبقونه بالقول } الآية لانهم بامره دعوه عند رفع الحاجات ولذلك اثنى عليهم بقوله { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا } وقد اعظم امر الدعاء بقوله { قل ما يعبأ بكم ربى لولا دعاؤكم } وهم ممتازون عن الملائكة بكرامة الدعاء والاستجابة وهذه مرتبة الخواص من بنى آدم فى الدعاء. فاما مرتبة اخص الخواص فهى انهم يدعون ربهم لا خوفا ولا طمعا بل محبة منهم وشوقا الى وجهه الكريم كما قال { يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه } وهذه هى الكرامة الثانية التى من نتائج الاحتياج حتى لا يبقى شئ من المخلوقات الا محتاجا بخلاف مخلوق آخر فان لكل مخلوق استعداد فى الاحتياج يناسب حال جبلته التى جبل عليها فكل مخلوق يفتقر الى خالقه بنوع ما وتفتقر اليه بنوا آدم من جميع الوجوه وهذا هو سر قوله تعالى { والله الغنى وانتم الفقراء } كما ان ذاته وصفاته استوعبت الغنى كذلك ذواتهم وصفاتهم استوعبت الفقر فاكرمهم الله بعلم اسماء ما كانوا محتاجين اليه كله ووفقهم للسؤال عنه وانعم عليهم بالاجابة فقال { وآتيكم من كل ما سألتموه } وعد ذلك من النعم التى لا نهاية لها وكرامة لا كرامة فوقها بقوله { وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها } وبقوله { يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم } يشير الى انه يعلم ما بين ايدى الملائكة من خجالة قولهم { أتجعل فيها من يفسد فيها } الآية فان فيه شائبة نوع من الاعتراض ونوع من الغيبة ونوع من العجب حتى عيرهم الله فيما قالوا وقال { انى اعلم ما لا تعلمون } يعنى اعلم منه استحقاق المسجودية واعلم منكم استحقاق الساجدية له وما خلفهم اى وما يأمرهم بالسجود له والاستغفار لمن فى الارض يعنى المغتابين من اولاده ليكون كفارة لما صدر منهم فى حقهم { ولا يشفعون } فى الاستغفار { الا لمن ارتضى } يعنى الله تبارك وتعالى من اهل المغفرة وهم من خشيته مشفقون اى من خشية الله وسطوة جلاله خائفون ان لا يعفو عنهم ما قالوا او يأخذهم به ومن يقل منهم انى اله من دونه يعنى من الملائكة فذلك نجزيه جهنم يشير اى انه ليس للملك استعداد الاتصاف بصفات الالوهية ولو ادعى هذه المرتبة فجزاؤه جهنم البعد والطرد والتعذيب كما كان حال ابليس وبه يشير الى ان الاتصاف بصفات الالوهية مرتبة بنى آدم كما قال عليه السلام "تخلقوا باخلاق الله" وقال "عنوان كتاب الله الى اوليائه يوم القيامة من الملك الحى الذى لا يموت الى الملك الحى الذى لا يموت" فافهم جدا كذلك نجزى الظالمين يعنى الذين يضعون الاشياء فى غير موضعها كاهل الرياء والسمعة والشرك الخفى انتهى ما فى التأويلات النجمية.