التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ
٢٩
-الحج

روح البيان في تفسير القرآن

{ ثم ليقضوا تفثهم } عطف على يذكروا اى ليزبلوا وسخهم بخلق الرأس وقص الشارب والاظفار ونتف الابط ولاستحداد عند الاحلال اى الخروج من الاحرام فالتفث الوسخ يقال للرجل ما أتفثك وما ادرنك اى وما اوسخك وكل ما يستقذر من الشعث وطول الظفر ونحوهما تفث، قال الراغب اصل التفث سخ الظفر وغير ذلك مما شأنه ان يزال عن البدن والقضاء فصل الامر قولا كان ذلك او فعلا وكل واحد منها على وجهين الهى وبشرى والآية من قبيل البشرى كما فى قوله تعالى { ثم اقضوا الىّ ولا تنظرون } اى افرغوا من امركم وقول الشاعر

قضيت امورا ثم غادرت بعدها

يحتمل القضاء بالقول والفعل جميعا كما فى المفردات { وليوفوا نذورهم } يقال وفى بعهده واوفى اذا تمم العهد ولم ينقض حفظه كما دل عليه الغدر وهو الترك والنذر ان توجب على نفسك ما ليس بواجب والمراد بالنذور ما نذروه من اعمال البر فى ايام الحج فان الرجل اذا حج واعتمر فقد يوجب على نفسه من الهدى وغيره ما لولا ايجابه لم يكن الحج يقتضيه وان كان على الرجل نذور مطلقة فالافضل ان يتصدق بها على اهل مكة { وليطوفوا } طواف الركن الذى به يتم التحلل فانه قرينة قضاء التفث { بالبيت العتيق } اى القديم فانه اول بيت وضع للناس او المعتق من تسلط الجبابرة فكم من جبار سار اليه ليهدمه فعصمه الله واما الحجاج الثقفى فانما قصد اخراج ابن الزبير رضى الله عنه لا التسلط عليه ولما قصد التسلط عليه ابرهه فعل به ما فعل، اعلم ان طواف الحجاج ثلاثة. الاول طواف القدوم وهو ان من قدم مكة يطوف بالبيت سبعا يرمل ثلاثا من الحجر الاسود الى ان ينتهى اليه ويمشى اربعا وهذا الطواف سنة لاشىء بتركه. والثانى طواف الافاضة يوم النحر بعد الرمى والحلق ويسمى ايضا طواف الزيارة وهو ركن لا يحصل التحلل من الاحرام ما لم يأت به. والثالث طواف الوداع لا رخصه لمن اراد مفارقة مكة الى مسافة القصر فى ان يفارقها حتى يطوف بالبيت سبعا فمن تركه فعليه دم الا المرأة الحائضة فانه يجوز لها ترك طواف الوداع ثم ان الرمل يختص بطواف القدوم ولا رمل فى طواف الافاضة والوداع

اى كه درين كوى قدم مى نهى روى توجه بحرم مى نهى
باى باندازه درين كوى نه باى كر سوده شود روى نه
جرخ زنان طوف كنان برحضور توشده بروانه واوشمع نور
عادت براونة ندانى مكر جرخ زند اول وسوزد دكر

قال الشيخ الاكبر قدس سره الاطهر فى الفتوحات المكية لما نسب الله العرش فى السماء الى نفسه وجعله محل استواء للرحمن فقال { الرحمن على العرش استوى } وجعل الملائكة حافين به بمنزلة الحراس الذين يدورون بدار الملك والملازمين له لتنفيذ امره كذلك جعل الله بيته فى الارض ونصبه للطائفين على ذلك الاسلوب وتميز البيت على العرش بامر جلى وسر الهى ما هو فى العرش وهي يمين الله فى الارض لتبايعه فى كل شوط مبايعة رضوان فالحجر يمين الله يبايع به عباده بلا شك ولكن على الوجه الذى يعلمه سبحانه من ذلك فصح النسب بالتقديس ومن هنا يعرف ان مافى الوجود الا الله سبحانه وتقدس

كعبه كرو درهمه دلها ره است جزوى از اعضاى يمين الله است

قال بعض لكبار وضع الله بيته فى الارض قبل آدم وذريته وآجال الطائفين حوله ابتلاء وامتحانا ليحتجبوا بالبيت عن صاحب البيت يعنى حجبهم بالوسائط عن مشاهدة جماله غيرة على نفسه من ان يرى احد اليه سبيلا ـ حكى ـ ان عارفا من اولياء الله تعالى قصد الحج وكان له ابن فقال ابنه الى اين تقصد فقال الى بيت الله فظن الغلام ان من يرى البيت يرى رب البيت فقال يا ابى لم لا تحملنى معك فقال انت لا تصلح لذلك فبكى الغلام فحمله معه فلما بلغا الى الميقات احرما ولبيا ودخلا الحرم فلما شوهد البيت تحير الغلام عند رؤيته فخر ميتا فدهش والده وقال اين ولدى وقطعة كبدى فنودى من زواية البيت انت طلبت البيت فوجدته وهو طلب رب البيت فوجد رب البيت فرفع الغلام من بينهم فهتف هاتف انه ليس فى القبر ولا فى الارض ولافى الجنة بل هو فى مقعد صدق عند مليك مقتدر: وفى المثنوى

خوش بكش اين كاروانرا تابحج اى امير الصبر مفتاح الفرج
حج زيارت كردن خانه بود حج رب البيت مردانه بود

فمن اعرض عن الجهة وتوجه الى الوجه الاحدى صار الحف قبله له فيكون هو قبله الجميع كآدم عليه السلام كان قبلة الملائكة لانه وسيلة الحق بينه وبين ملائكته لما عليه نم كسوة جماله وجلاله كما قال عليه السلام "خلق الله آدم على صورته" يعنى القى عليه حسن صفاته ونو مشاهدته، قال بعض العارفين لما كانت البيت المحرم سر لباس شمس الذات الاحدية وحد الحق سبحانه القصد اليه فقال { ولله على الناس حج البيت } فجاء بلفظ البيت لما فيه من اشتقاق المبيت والمبيت لا يكون الا فى الليل والليل محل التجلى للعباد فانه فيه نزول الحق كما يليق وهو مظهر الغيب وهو محل التجلى ولباس الشمس كذلك البيت الحرام مظهر حضر الغيب الالهى وسر التجلى الوحدانى وسر منبع رحمة الرحمانية لأن الحق اذا تجلى لاهل الارض بصفة الرحمة ينزل الرحمة اولا على البيت ثم تقسم منه فالبيت سر وحدانية ا لحق فجعل الحق حجة واحدة لا يتكرر وجوبه كتكرر سائر العبادات لاجل مضاهاته بحضرة الاحدية وفضل البيت على سائر البيوت كفضله سبحانه على خلقه والفضل كله لله تعالى فانوار جميع البيوت وفضائلها مقتبسة من نوره كما وردت الاشارة ان الارض مدت من البيت وهو حقيقة الحقائق الكونية الشهادية فلذلك سميت مكة بام القرى شرفها الله تعالى وتقدس.
وفى التأويلات النجمية
{ واذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا } اى وناد فى الناسين من النفس وصفاتها والقالب وجوارحه بزيارة القلب للاتصاف بصفاته والدخول فى مقاماته يأتوك مشاة وهى النفس وصفاتها { وعلى كل ضامر } وهو القالب وجوارحه يعنى يقصدون القلب بالاعمال الشرعية البدنية فانهم كالركبان لأن الاعمال البدنية مركبة بحركات الجوارح ونيات الضمير كما ان اعمال النفس مفردة لانها نيات الضمير فحسب { يأتين من كل فج عميق } وهو سفل الدنيا لأن القالب من الدنيا واكثر استعماله فى مصالح الدنيا بالجوارح والاعضاء فردها الى استعمالها فى مصالح لقلب اتيانها من كل فج عميق { ليشهدوا منافع لهم } اى ليحضروا وينتفعوا بالمنافع التى هى مستكنة فى القلب فاما النفس وصفاتها فمنافعها بتبديل الاخلاق واما القالب وجوارحه فمنافعهم قبول طاعاتهم وظهو آثارها على سيماهم ويذكروا اسم الله اى القلب والنفس والقالب شكرا على ما رزقهم من بهيمة الانعام بان جعل الصفات البهيمية الحيوانية مبدلة بالصفات القلبية الروحانية الربانية وبقوله { فكلوا منها واطعموا البائس الفقير } يشير الى ان انتفعوا من هذه المقامات والكرامات واطعموا بمنافعها الطالب المحتاج والقاصد الى الله بالخدمة والهداية والارشاد ثم ليقضوا الطلاب تفثهم وهو ما يجب عليهم من شرائط الارادة وصدق الطلب { وليوفوا نذورهم } فما عاهدوا الله على التوجه ا ليه وصدق الطلب والارادة { وليطوفوا بالبيت العتيق } اى يطوفوا حول الله بقلبهم وسرهم ولا يطوفوا حول ما سواه واراد بالعتيق القديم هو من صفات الله تعالى.