التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِي مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً
٥٣
-الفرقان

روح البيان في تفسير القرآن

{ وهو الذى مرج البحرين } من مرج الدابة خلاها وارسلها ترعى ومرج امرهم اختلط والبحر الماء الكثير عذبا كان او ملحا عند الاكثر واصله المكان الواسع الجامع للماء الكثير كما فى المفردات. والمعنى خلاهما وارسلهما فى مجاريهما كما يرسل الخيل فى المرج متلاصقين بحيث لا يتماز جان ولا يلتبس احدهما بالآخر ويدل على بعد كل منهما عن الآخر مع شدة التقارب بينهما الاشارة الى كل منهما باداة القرب كما يجيىء ويجوز ان يكون محمولا على المقيد وهو قوله تعالى { مرج البحرين يلتقيان } { هذا عذب } حال بتقدير القول اى مقولا فى حقهما هذا عذب اي طيب: وبالفارسية [اين يك اب شيرين] { فرات } قاطع للعطش لغاية عذوبته صفة عذب والتاء اصلية، قال الطيبى سمى بالفرات لأنه يرفت العطش اى يكسره على القلب يعنى يكفى فى اعتبار معنى الكسر اشتقاق الفرات منه بالاشتقاق الكبير كجبذ من الجذب ومنه سمى الفرات نهر الكوفة وهو ونهر عظيم عذب طيب مخرجه من ارمينية وفى الملكوت اصله فى قرية من قرى جابلقا ينحدر الى الكوفة وآخر مصبه بعضا فى دجله وبعضا فى بحر فارس { وهذا ملح } [وان ديكر شور]، قال الراغب الملح الماء الذى تغير طعمه التغير المعروف وتجمد ويقال له ملح اذا تغير طعمه وان لم يتجمد فيقال ماء ملح وقلما تقول العرب ماء مالح { اجاج } بليغ الملوحة صفة الملح قالوا ان الله تعالى خلق ماء البحر مرّا زعاقا اى مرّا غليظا بحيث لا يطاق شربه انزل من السماء ماء عذبا فكل ماء عذب من بئر او نهر او عين فمن ذلك المنزل من السماء واذا اقتربت الساعة بعث الله ملكا معه طست لايعلم عظمه الا الله فجمع تلك المياه فردها الى الجنة. واختلفوا فى ملوحة ماء البحر فزعم قول انه لما طال مكثه واحرقته الشمس صار مرا ملحا واجتذب الهواء مالطف من اجزائه فهو بقية صفته الارض من الرطوبة فغلظ لذلك. وزعم آخرون ان فى البحر عروقا تغير ماء البحر ولذلك صار مرا زعاقا { وجعل بينهما } اى بين البحرين: وبالفارسية [وبساخت ميان اين دودريا] { برزخا } حدا وحاجزا من قدرته غير مرئى { وحجرا محجورا } الحجر بمعنى المنع والمحجور الممنوع وهو صفة الحجر على التأكيد كليل اليل ويوم ايوم وهذه كلمة استعاذة كما سبق فى هذه السورة. والمعنى ههنا على التشبيه اى تنافرا بليغا كأن كلا منهما يتعوذ من الآخر بتلك المقالة ويقول حراما محرما عليك ان تغلب علىّ وتزيل صفتى وكيفيتى، اعلم ان اكثر اهل التفسير حمل البحرين على بحرى فارس والروم فانهما يلتقيان فى البحر المحيط وموضع التقائهما هو مجمع البحرين المذكور فى الكهف ولكن يلزم على هذا ان يكون البحر الاول عذبا والثانى ملحا مع انهم قالوا لا وجود للبحر العذب وذلك لانهما فى الاصل خليجان من المحيط وهو مرّ وان كان اصله عذبا كما قال فى فتح القريب عند قوله تعالى { وكان عرشه على الماء } اى العذب فحين خلق الله الارض من زبده جزر المحيط عن الارض فاحاط بالعالم احاطة العين لسوادها فالوجه ان يحمل العذب على واحد من الانهار فان كل نهر عظيم بحر كما فى مختار الصحاح كدجلة نهر بغداد تنصب الى بحر فارس وتدخل فيه وتشقه وتجرى فى خلاله فراسخ لايتغير طعمها كما ان الماء الذى يجرى فى نهر طبرية نصفه بارد ونصفه حار فلا يختلط احدهما بالآخر والاوجه ان يمثل بالنيل المبارك والبحر الاخضر وهو بحر فارس الذى هو شعبة من البحر الهندى الذى يتصل بالبحر المحيط وبحر فارس مرّ فانه صرح فى خريدة العجائب انه يتكون فيه اللؤلؤ وانما يتكون فى الملح وذلك ان بحر النيل يدخل فى البحر الاخضر قبل ان يصل الى بحيرة الزنج ويختلظ به وهو معنى المرج ولولا اختلاطه بملوحته لما قدر احد على شربه لشدة حلاوته كما فى انسان العيون، وذكر بعضهم ان سيحون وجيحون والنيل والفرات تخرج من قبة من زبرجدة خضراء من جبل عال وتسلك على البحر المظلم وهى احلى من العسل واذكى رائحة من المسك ولكنها تتغير المجارى فالبحر الملح على هذا هو بحر الظملة وهو البحر المحيط الغربى ويسمى المظلم لكثرة اهواله وارتفاع امواجه وصعوبته ولا يعلم ما خلفه الا الله تعالى وماقيل ان الماء العذب والماء الملح يجتمعان فى البحر فيكون العذب اسفل والملح اعلى لا يغلب احدهما على الآخر وهو معنى قوله وحجرا محجورا يخالف ما قال بعضهم ان كل الانهار تبتدىء من الجبال وتنصب فى البحار وفى ضمن ممرها بطائح وبحيرات فاذا صبت فى البحر المالح واشرقت الشمس على البحر تصعد الى الجو بخارا وتنعقد غيوما اى ولذا لايزيد ماء البحار بانصباب الانهار فيها فهو يقتضى ان يكون الماء العذب اعلى لا اسفل اذ العذب خفيف والملح ثقيل وميل الخفيف الى الاعلى، وقال وهب ان الحوت والثور يبتلعان ما ينصب من مياه الارض فى البحار فلذا لايزيد ماء البحار فاذا امتلأت اجوافهما من المياه قامت القيامة ولانهاية لقدرة الله تعالى فقد ذكروا ان بحيرة تنيس تصير عذبة ستة اشهر وتصير ملحا اجاجا ستة اشهر كذا دأبها ابدا، قال الكاشفى [محققان برآنندكه بحرين خوف ورجاست كه دردل مؤمن هيج يك برديكرى غلبه نكندكه "لووزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا" وبرزخ حمايت الهى وعنايت نا متناهى] وفى كشف الاسرار البحر الملح لاعذوبة فيه والعذب لا ملوحة فيه وهما فى الجوهرية واحد ولكنه سبحانه بقدرته غاير بينهما فى الصفة كذلك خلق القلوب بعضها معدن اليقين والعرفان وبعضها محل الشك والكفران، وقال بعضهم البحران بحر المعرفة وبحر النكرة فالاول بحر الصفات يفيض لطائفه على الارواح والقلوب والعقول ويستعد به والعارفون والثانى بحر الذات فانه ملح اجاج لا تتناوله العقول والقلوب والارواح اذ لا تسير السيارات فى بحار القدم فهى نكرة وبينهما برزخ المشيئة لا يدخل اهل بحر الصفات بحر الذات ولا يرجع اهل بحر الذات الى بحر الصفات. وايضا قلوب اهل المعرفة منورة بانوار الموافقات وقلوب اهل النكرة مظلمة بظلمة المخالفات وبينهما قلوب العامة ليس لها علم ما يرد عليها وما يصدر منها فليس معها خطاب ولا لها جواب: وفى المثنوى

ماهيانرا بحر نكذارد برون خاكيانرا بحر نكذارد درون
اصل ماهى زاب وحيوان ازكلست حيله وتدبير اينجا باطلست
قفل زفتست وكشاينده خدا دست درتسليم زن اندر رضا
قطره باقلزم جه استيزه كند ابلهست اوريش خود برمى كند

نسأل الله الفياض الوهاب ان يدخلنا فى بحر فيضه الكثير وعطائه الوفير وهو على ذلك قدير.