التفاسير

< >
عرض

مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ
٤
-الأحزاب

روح البيان في تفسير القرآن

{ ما جعل الله لرجل من قلبين فى جوفه } جعل بمعنى خلق والرجل مخصوص بالذكر من الانسان والتنكير ومن الاستغراقية لافادة التعيمم والقلب مضغة صغيرة فى هيئة الصنوبرة خلقها الله فى الجانب الايسر من صدر الانسان معلقة بعرف الوتين وجعلها محلا للعلم وجوف الانسان بطنه كما فى اللغات وذكره لزيادة التقرير كما فى قوله تعالى { { ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور } : والمعنى بالفارسية [الله تعالى هيج مردرا دو دل نيافريد اندرون وى زيرا كه قلب معدن روح حيوانى ومنبع قوتها ست بس يكى بيش نشايد زيرا كه روح حيوانى يكيست] وفيه طعن على المنافقين كما قاله القرطبى يعنى ان الله تعالى لم يخلق للانسان قلبين حتى يسع احدهما الكفر والضلال والاصرار والانزعاج والآخر الايمان والهدى والانابة والطمأنينة فما بال هؤلاء المنافقين يظهرون ما لم يضمروه وبالعكس.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما كان المنافقون يقولون ان لمحمد قلبين قلبا معنا وقلبا مع اصحابه فاكذبهم الله.
وقال بعضهم هذا رد ما كانت العرب تزعم من ان للعاقل المجرب للامور قلبين ولذلك قيل لابى معمر ذى القلبين وكان من احفظ العرب وادراهم واهدى الناس الى طريق البلدان وكان مبغضا للنبى عليه السلام وكان هو او جميل بن اسد يقول فى صدرى قلبان اعقل بهما افضل مما يعقل محمد بقلبه [كفت در سينه من دودل نهاده اند تادانش ودر يافت من بيش از در يافت محمد باشد] وكان الناس يظنون انه صادق فى دعواه فلما هزم الله المشركين يوم بدر انهزم فيهم وهو يعدو فى الرمضاء واحدى نعليه فى يده والاخرى فى رجله فلقيه ابو سفيان وهو يقول اين نعلى اين نعلى ولا يعقل انها فى يده فقال له احدى نعليك فى يدك والاخرى فى رجلك فعلموا يومئد انه لو كان له قلبان ما نسى نعله فى يده.
ويقول الفقير اما ما يقال بين الناس لفلان قلبان فليس على حقيقته وانما يريدون بذلك وصفه بكمال القوة وتمام الشجاعة كأنه رجلان وله قلبان.
وفى الآية اشارة الى ان القلب خلق للمحبة فقط فالقلب واحد والمحبة واحدة فلا تصلح الا لمحبوب واحد لا شريك له كما اشار اليه من قال

دلم خانه مهريارست وبس ازان مى نكنجد دروكين كس
فمن اشتغل بالدنيا قالبا وقلبا ثم ادعى حب الآخرة بل حب الله فهو كاذب فى دعواه
جمشيد جز حكايت جام از جهان نبرد زنهار دل مبند براسباب دنيوى

{ وما جعل ازواجكم } نساءكم جمع زوج كما ان الزوجات جمع زوجة والزوج افصح وان كان الثانى اشهر: وبالفارسية [ونساخته زنان شمارا] { واللآئى } جمع التى { تظاهرون منهن } اى تقولون لهن انتن علينا كظهور امهاتنا اى فى التحريم فان معنى ظاهر من امرأته قال لها انت علىّ كظهر امى فهو مأخوذ من الظهر بحسب اللفظ كما يقال لبى المحرم اذا قال لبيك واقف الرجل اذا قال اف وتعديته بمن لتضمنه معى التجنب وكان طلاقا فى الجاهلية وكانوا يجتنبون المطلقة: يعنى [طلاق جاهليت اين بود كه بازن خويش ميكفتند] انت علىّ كظهر امى اى انت علىّ حرام كبطن امى فكنوا عن البطن بالظهر لئلا يذكروا البطن الذى ذكره يقارب ذكر الفرج وانما جعلوا الكناية بالظهر عن البطن لانه عمود البطن وقوام البنية { امهاتكم } اى كامهاتكم جمع ام زيدت الهاء فيه كما زيدت فى احراق من اراق وشدت زيادتها فى الواحدة بان يقال امه. والمعنى ما جمع الله الزوجية والامومة فى امرأة لان الام مخدومة لا يتصرف فيها والزوجة خادمة يتصرف فيها والمراد بذلك نفى ما كانت العرب تزعمه من ان الزوجة المظاهر منها كالام.
قال فى كشف الاسرار [جون اسلام آمد وشريعت راست رب العالمين براى اين كفارت وتحلت بديد كرد وشرع آنرا اظهار نام نهاد] وهو فى الاسلام يقتضى الطلاق والحرمة الى اداء الكفارة وهى عتق وقبة فان عجز صام شهرين متتابعين ليس فيهما رمضان ولا شئ من الايام المنهية وهى يوما العيد وايام التشريق فان عجز اطعم ستين مسكينا كل مسكين كالفطرة او قيمة ذلك. وقوله انت على كظهر امى لا يحتمل غير الظهار سواء نوى او لم ينو ولا يكون طلاقا او ايلاء لانه صريح فى الظهار. ولو قال انت علىّ مثل امى فان نوى الكرامة اى ان قال اردت انها مكرمة على كامى صدق او الظهار فظهار او الطلاق فبائن وان لم ينو شيئا فليس شئ. ولو قال انت علىّ حرام كامى ونوى ظهارا او طلاقا فكما نوى. ولو قال انت علىّ حرام كظهر امى ونوى طلاقا وايلاء فهو ظهار وعندهما ما نوى ولا ظهار الا من الزوجة فلا ظهار من امته لان الظهار منقول عن الطلاق لانه كان طلاقا فى الجاهلية ولا طلاق فى المملوك. ولو قال لنسائه انتن علىّ كظهر امى كان مظاهرا منهن وعليه لكل واحدة كفارة وان ظاهر من واحدة مرارا فى مجلس او مجالس فعليه لكل ظهار كفارة كما فى تكرار اليمين فكفارة الظهار واليمين لا تتداخل بخلاف كفارة شهر رمضان وسجدة التلاوة اى اذا تكررت التلاوة فى موضع لا يلزم الا سجدة واحدة { وما جعل ادعياءكم } جمع دعى فعيل بمعنى مفعول وهو الذى يدعى ولدا ويتخذ ابنا اى المتبنى بتقديم الباء الموحدة على النون: وبالفارسية [كسى را به بسرى كرفتن] وقياسه ان يجمع على فعلى كجرحى بان يقال دعيا فان افعلاء مختص بفعيل بمعنى فاعل مثل تقى واتقياء كأنه شبه فعيل بمعنى مفعول فى اللفظ بفعليل بمعنى فاعل فجمع جمعه { ابناءكم } حقيقة فى حكم الميراث والحرمة والنسب اى ما جعل الله الدعوة والبنوة فى رجل لان الدعوة عرضه والبنوة اصل فى النسب ولا يجتمعان فى الشئ الواحد وهذا ايضا رد ما كانوا يزعمون من ان دعى الرجل ابنه فيجعلون له من الميراث مثل نصيب الذكر من اولادهم ويحرمون نكاح زوجته اذا طلقها ومات عنها ويجوز ان يكون نفى القلبين لتمهيد اصل يحمل عليه نفى الامومة عن المظاهر منها والبنوة عن المتبنى. والمعنى كما لم يجعل الله قلبين فى جوف واحد لادائه الى التناقض وهو ان يكون كل منهما اصلا لكل القوى وغير اصل كذلك لم يجعل الزوجة امّا والدعىّ ابنا لاحد يعنى كون المظاهر منها امّا وكون الدعىّ ابنا اى بمنزلة الام والابن فى الآثار والاحكام المعهودة بينهم فى الاستحالة بمنزلة اجتماع قلبين فى جوف واحد.
وفيه اشارة الى ان فى القرابة النسبية خواص لا توجد فى القرابة السببية فلا سبيل لاحد ان يضع فى الازواج بالظهار ما وضع الله فى الامهات ولا ان يضع فى الاجانب بالتبنى ما وضع الله فى الابناء فان الولد سر ابيه فما لم يجعل الله فليس فى مقدور احد ان يجعله { ذلكم } [اين مظاهره را مطلقه ودعى را ابن خواندن] او هو اشارة الى الاخير فقط لأنه المقصود من سياق الكلام اى دعاؤكم الدعى بقولكم هذا ابنى { قولكم بافواهكم } فقط لا حقيقة له فى الاعيان كقول الهارب فاذا هو بمعزل عن احكام البنوة كما زعمتم والافواه جمع فم واصل فم فوه بالفتح مثل ثوب واثواب وهو مذهب سيبويه والبصريين وفوه بالضم مثل سوق واسواق وهو مذهب الفراء حذفت الهاء حذفا غير قياسى لخفائها ثم الواو لاعتلالها ثم ابدلت الواو المحذوفة ميما لتجانسهما لانهما من حروف الشفة فصار فم.
قال الراغب وكل موضع علق الله فيه حكم القول بالفم فاشارة الى الكذب وتنبيه على ان الاعتقاد لا يطابقه { والله يقول الحق } اى الكلام المطابق للواقع لان الحق لا يصدر الا من الحق وهو ان غير الابن لا يكون ابنا { وهو يهدى السبيل } اى سبيل الحق لا غيره فدعوا اقوالكم وخذوا بقوله هذا. والسبيل من الطرق ما هو معتاد السلوك وما فيه سهولة.
وفى التأويلات النجمية { والله يقول الحق } فيما سمى كل شئ بازاء معناه { وهو يهدى السبيل } الى اسم كل شئ مناسب لمعناه كما هدى آدم عليه السلام بتعليم الاسماء كلها وخصصه بهذا العلم دون الملائكة المقربين.
قال بعض الكبار اعلم ان آداب الشريعة كلها ترجع الى ما نذكره وهو ان لا يتعدى العبد فى الحكم موضعه فى جوهر كان او فى عرض او فى زمان او مكان او فى وضع او فى اضافة او فى حال او فى مقدار او عدد او فى مؤثر او فى مؤثر فيه. فاما اولاها فى الجوهر فهو ان يعلم العبد حكم الشرع فى ذلك فيجريه فيه بحسنه. واما ادب العبد فى الاعراض فهو ما يتعلق بافعال المكلفين من وجوب وحظر واباحة ومكروه وندب. واما ادبه فى الزمان فلا يتعلق الا باوقات العبادات المرتبطة بالاوقات فكل وقت له حكم فى المكلف ومنه ما يضيق وقته ومنه ما يتسع. واما ادبه فى المكان كمواضع العبادات مثل بيوت الله فيرفعها عن البيوت المنسوبة الى الخلق ويذكر فيها اسمه. واما ادبه فى الوضع فلا يسمى الشئ بغير اسمه ليغير عليه حكم الشرع بتغيير اسمه فيحلل ما كان محرما ويحرم ما كان محللا كما فى حديث
"سيأتى على امتى زمان يظهر فيه اقوام يسمون الخمر بغير اسمها" اى فتحا لباب استحلالها بالاسم وقد تفطن لما ذكره الامام مالكرحمه الله فسئل عن خنزير البحر فقال هو حرام فقيل له انه من جملة سمك البحر فقال انتم سميتوه خنزيرا فانسحب عليه حكم التحريم لاجل الاسم كما سموا الخمر نبيذا او ابريزا فاستحلوها بالاسم وقالوا انما حرم علينا ما كان اسمه خمرا. واما ادب الاضافة فهو مثل قول الخضر عليه السلام { { فاردت ان اعيبها } وقوله { { فاردنا ان يبدلهما ربهما } وذلك للاشتراك بين ما يحمد ويذم وقال { { فاراد ربك } لتخليص المحمدة فيه فان الشئ الواحد يكتسب ذما بالنسبة الى جهة ويكتسب حمدا بالاضافة الى جهة اخرى وهو هو بعينه وانما يغير الحكم بالنسبة. واما ادب الاحوال كحال السفر فى الطاعة وحال السفر فى المعصية فيختلف الحكم بالحال. واما الادب فى الاعداد فهو ان لا يزيد فى افعال الطهارة على اعضاء الوضوء ولا ينقص وكذلك القول فى اعداد الصلوات والزكوات ونحوها وكذلك لا يزيد فى الغسل عن صاع والوضوء عن مد. واما ادبه فى المؤثر فهو ان يضيق القتل او الغضب مثلا الى فاعله ويقيم عليه الحدود. واما اجبه فى الموثر فيه كالمقتول قودا فينظر هل قتل بصفة ما قتل به او بامر آخر وكالمغصوب اذا وجد بغير يد الذى باشر الغصب فهذه اقسام آداب الشريعة كلها فمن عرفها واجراها كان من المهتدين الى السبيل الحق والمحفوظين عن الضلال المطلق فاعرف