التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
٣٩
-سبأ

روح البيان في تفسير القرآن

{ قل ان ربى يبسط الرزق لمن يشاء من عباده } اى يوسعه عليه تارة { ويقدر له } اى يضيقه عليه تارة اخرى ابتلاء وحكمة ابتلاء وحكمة فهذا فى شخص واحد باعتبار وقتين وما سبق فى شخصين فلا تكرار { وما انفقتم من شئ } ما موصولة بمعنى الذى: وبالفارسية [آنجه] مبتدأ خبره قوله { فهو يخلفه } او شرطية بمعنى أى شئ: وبالفارسية [هرجه] نصب بقوله انفقتم ومن شئ بيان له وجواب الشرط قوله فهو يخلفه [والانفاق: نفقه كردن] يقال نفق الشئ مضى اما بالببيع نحو نفق البيع نفاقا وامابالموت نحو نفقت الدابة نفوقا واما بالفناء نحو نفقت الدراهم تنفق وانفقتها [والاخلاف: بدل بازدادن ازمال وفرزند] يقال اخلف الله له وعليه اذا بدل له ما ذهب عنه والمعنى الذى أو اى شئ انفقتم فى طاعة الله وطريق الخير والبر فالله تعالى يعطى خلفا له وعوضا منه اما فى الدنيا بالمال او بالقناعة التى هى كنز لا يفنى واما فى الآخرة بالثواب والنعيم او فيهما جميعا فلا تخشوا الفقر وانفقوا فى سبيل الله وتعرضوا لالطاف الله عاجلا وآجلا.
وفى التأويلات النجمية وما انفقتم من شئ من الموجود او الوجود فهو يخلفه من الموجود الفانى بالموجود الباقى ومن الوجود المجازى بالوجود الحقيقى فمن الخلف فى الدنيا الرضى بالعدم والفقر صورة ومعنى وهم اتم من السرور بالموجود والوجود

افتد هماى دولت اكر دركمندما از همت بلند رها ميكنيم ما

{ وهو خير الرازقين } اى خير من اعطى الرزق فان غيره كالسلطان والسيد والرجل بالنسبة الى جنده وعبده وعياله واسطة فى ايصال رزقه ولا حقيقة لرازقيته والله تعالى يعطى الكل من خزائن لا تفنى.
وفى التأويلات النجمية يشير الى انه خير المنفقين لان خيرية المنفق بقدر خيرية النفقة فما ينفق كل منفق فى النفقة فهو فان وما ينفق الله من نفقة ليخلفه بها فهى باقية والباقيات خير من الفانيات انتهى.
قال فى بحر العلوم لما كانت اقامة مصالح العباد من اجل الطاعات واشرف العبادات لانها من وظيفة الانبياء والصالحين دلهم الله فى الآية على طرف منها حثا عليها كما قال عليه السلام حثا لامته عليها
"الخلق كلهم عيال الله واحبهم اليه انفعهم لعياله" قال العسكرى هذا على التوسع والمجاز كأن الله تعالى لما كان المتضمن لارزاق العباد والكافل بها كان الخلق كالعيال وفى الحديث "ان لله املاكا خلقهم كيف يشاء وصورهم على ما يشاء تحت عرشه ألهمهم ان ينادوا قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فى كل يوم مرتين ألا من وسع على عياله وجيرانه وسع الله عليه فى الدنيا والآخرة ألا من ضيق ضيق الله عليه ألا ان الله قد اعطاكم لنفقة درهم على عيالكم خير من سبعين قنطارا" والقنطار كجبل احد وزنا "انفقوا ولا تخشوا ولا تضيقوا ولا تقتروا وليكن اكثر نفقتكم يوم الجمعة" وفى الحديث "كل معروف صدقة وكل ما انفق الرجل على نفسه واهله كتب له به صدقة وما وقى الرجل به عرضه كتب له به صدقة" ومعنى كل معروف صدقة ان الانفاق لا ينحصر فى المال بل يتناول كل بر من الاموال والاقوال والافعال والعلوم والمعارف وانفاق الواصلين الى التوحيد الحقانى والمعرفة الذاتية افضل واشرف لان نفع الاموال للاجساد ونفع المعارف للقلوب والارواح ومعنى ما وقى به عرضه ما اعطى الشاعر وذا اللسان المتقى وفى الحديث "ان لكل يوم نحسا فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة" وفى الحديث "ينادى مناد كل ليلة لا دواء للموت وينادى آخر ابنوا للخراب وينادى مناد هب للمنفق خلفا وينادى مناد هب للممسك تلفا" : قال الحافظ

احوال كنج قارون كايام داد برباد باغنجه باز كوييد تازر نهان ندارد

وفى المثنوى

آن درم دادن سخى را لا يقست جان سبردن خودسخاى عاشقست
نان دهى ازبهر حق نانت دهند جان دهى از بهر حق جانت دهند
هركه كارد كردد انبارش تهى ليكش اندر مزرعه باشد بهى
وانكه در انبار ماند وصرفه كرد اشبش وموش وحوادثهاش خورد
جملة در بازار زان كشـتند بند تاجه سود افتاد مال خود دهند

وفى الحديث "يؤجر ابن آدم فى نفقته كلها الا شيئا وضعه فى الماء والطين"
قال حضرة الشيخ صدر الدين القنوى فى شرح هذا الحديث اعلم ان صور الاعمال اعراض جواهرها مقاصد العمال وعلومهم واعتقاداتهم ومتعلقات هممهم وهذا الحديث وان كان من حيث الصيغة مطلقا فالاحوال والقرائن تخصصه وذلك ان بناء المساجد والرباطات ومواضع العبادات يؤجر البانى لها عليها بلا خلاف فالمراد بالمذكور هنا انما هو البناء الذى لم يقصد صاحبه الا التنزه والانفساح والاستراحة والرياء والسمعة واذا كان كذلك فمطمح همة البانى ومقصده لا يتجاوزه هذا العالم فلا يكون لبنائه ثمرة ونتيجة فى الآخرة لانه لم يقصد بما فعله امرا وراء هذه الدار فافعاله اعراض زائلة لا موجب لتعديها من هنا الى الآخرة فلا اثمار لها فلا اجر انتهى.
اعلم ان العلماء تكلموا فى الانفاق والظاهر انه بحسب طبقات الناس. فمنهم من ينفق جميع ما ملكه توكلا على الله تعالى كما فعله الصديق لقوة يقينه. ومنهم من ينفق بعضه ويمسك بعضه لا للتنعيم بل للاتفاق وقت الحاجة. ومنهم من يقتصر على اداء الواجب.
قال الغزالىرحمه الله الاكتفاء بمجرد الواجب حد البخلاء فلا بد من زيادة عليه لو شئت يسيرا فبين هذه الطبقات تفاوت فى الدرجات وقد اسلفنا الكلام على الانفاق فى اواخر سورة الفرقان فارجع اليه واعتمد عليه جعلنا الله واياكم من اهل البذل والاحسان بلا امساك وادّخار واخلف خيرا مما انفقنا فان خزائنه لا تفنى وبحر جوده زخار وهو المعطى المفيض كل ليل ونهار