التفاسير

< >
عرض

وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
١١
-فاطر

روح البيان في تفسير القرآن

{ والله خلقكم من تراب } دليل آخر على صحة البعث والنشور اى خلقكم ابتداء من التراب فى ضمن خلق آدم خلقا اجماليا لتكونوا متواضعين كالتراب. وفى الحديث "ان الله جعل الارض ذلولا تمشون فى مناكبها وخلق بنى آدم من التراب ليذلهم بذلك فابوا الا نخوة واستكبارا ولن يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال حبة من خردل من كبر"
وقال بعضهم من تراب تقبرون وتدفنون فيه.
وفى التأويلات النجمية يشير الى انكم ابعد شئ من المخلوقات الى الحضرة لان التراب اسفل المخلوقات وكثيفها فان فوقه ماء وهو ألطف منه وفوق الماء هواء وهو ألطف منه وفوق الهواء اثير وهو ألطف من الهواء وفوق الاثير السماء وهى الطف من الاثير ولكن لا تشبه لطافة السماء بلطافة ما تحتها من العناصر لان لطافة العناصر من لطافة الاجسام ولطافة السموات من لطافة الاجرام. فالفرق بينهما ان لطافة الاجسام تقبل الخرق والالتئام ولطافة السموات لا تقبل الخرق والالتئام وفوق كل سماء سماء هى ألطف منها الى الكرسى وهو ألطف من السموات وفوقه العرش وهو ألطف من الكرسى وفوقه عالم الارواح وهو الطف من العرش ولكن لا تشبه لطافة الارواح بلطافة العرش والسموات لانها لطافة الاجرام فالفرق بينهما ان لطافة الاجرام قابلة للجهات الست ولطافة الارواح غير قابلة للجهات وفوق الارواح هو الله القاهر فوق عباده وهو ألطف من الارواح ولكن لطافته لا تشبه لطافة الارواح لان لطافة الارواح نورانية علوية محيطة بما دونها احاطة العلم بالمعلوم والله تعالى فوق كل شئ وهو منزه عن هذه الاوصاف ليس كمثله شئ وهو السميع البصير العليم { ثم من نطفة } النطفة هى الماء الصافى الخارج من بين الصلب والترائب قل او كثر اى ثم خلقكم من نطفة خلقا تفصيليا لتكونوا قابلين لكل كمال كالماء الذى هو سر الحياة ومبدأ العناصر الاربعة.
وقال بعضهم خلقكم من تراب يعنى آدم وهو اصل الخلق ثم من نطفة ذرية منه بالتناسل والتوالد.
وفى التأويلات يشير الى انه خلقكم من اسفل المخلوقات وهى النطفة لان التراب نزل دركة المركبية ثم دركة النباتية ثم دركة الحيوانية ثم دركة الانسانية ثم دركة النطفة فهى اسفل سافلى المخلوقات وهى آخر خلق خلقه الله تعالى من اصناف المخلوقات كما ان اعلى الشجرة آخر شئ يخلقه الله وهو البذر الذى يصلح ان توجد منه الشجرة فالبذر آخر صنف خلق من اصناف اجزاء الشجرة { ثم جعلكم ازواجا } اصنافا احمر وابيض واسود او ذكرانا واناثا.
وعن قتادة جعل بعضكم زوجا لبعض.
وفى التأويلات يشير الى ازدواج الروح والقالب فالروح من اعلى مراتب القرب والقالب من اسفل دركات البعد فبكمال القدرة والحكمة جمبع بين اقرب الاقربين وابعد الابعدين ورتب للقالب فى ظاهره الحواس الخمس وفى باطنه القوى البشرية ورتب للروح المدركات الروحانية ليكون بالروح والقالب مدركا لعوالم الغيب والشهادة كلها وعالما بما فيها خلافة عن حضرة الربوبية عالم الغيب والشهادة

آدمى شاه وكائنات سباه مظهر كل خليفه الله

{ وما } نافيه { تحمل } [برنكيرد يعنى ازفرزند] { من انثى } [هيج زنى] من مزيدة لاستغراق النفى وتأكيده والانثى خلاف الذكر ويقالان فى الاصل اعبارا بالفرجين كما فى المفردات { ولا تضع } [وننهد آنجه درشكم اوست يعنى نزايد { الا } حال كونها ملتبسة { بعلمه } تابعة لمشيئته.
قال فى بحر العلوم بعلمه فى موضع الحال والمعنى ما يحدث شئ من حمل حامل ولا وضع واضع الا وهو عالم به يعلم مكان الحمل ووضعه وايامه وساعاته واحواله من الخداج والتما م والذكورة والانوثة وغير ذلك { وما يعمر من معمر } ما نافية [والتعمير: عمر دادن] والمعمر من اطيل عمره ويقال للمعمر ابن الليالى. وقوله من معمر اى من احد ومن زائدة لتأكيد النفى كما فى من انثى وانما سمى معمرا باعتبار مصيره يعنى هو من باب تسمية الشئ بما يأول اليه والمعنى وما يمد فى عمر احد وما يطول: وبالفارسية [وزندكانى داده نشود هيج درازى عمرى] { ولا ينقص من عمره } العمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة وعن ابن عمر رضى الله عنهما انه قرأه من عمره بجزم الميم وهما لغتان مثل نكر ونكر والضمير راجع الى المعمر والنقصان من عمر المعمر محال فهو من التسامح فى العبارة ثقة بفهم السامع فيراد من ضمير المعمر ما من شأنه ان يعمر على الاستخدام والمعنى ولا ينقص من عمر احد لكن لا على معنى لا ينقص من عمره بعد كونه زائدا بل على معنى لا يجعل من الابتداء ناقصا: وبالفارسية [وكم كرده نشود از عمر معمرى ديكر يعنى كه بعمر معمر اول نرسد] { الا فى كتاب } اى اللوح او علم الله او صحيفة كل انسان { ان ذلك } المذكور من الخلق وما بعده مع كونه محارا للعقول والافهام { على الله يسير } لاستغنائه عن الاسباب فكذلك البعث.
وفى بحر العلوم ان ذلك اشارة الى ان الزيادة والنقص على الله يسير لا يمنعه منه ولا يحتاج فيه الى احد. واعلم ان الزيادة والنقصان فى الآية بالنسبة الى عمرين كما عرفت والا فمذهب اكثر المتكلمين وعليه الجمهور ان العمر يعنى عمر شخص واحد لا يزيد ولا ينقص.
وقيل الزيادة والنقص فى عمر واحد باعتبار اسباب مختلفة اثبتت فى اللوح مثل ان يكتب فيه ان حج فلان فعمره ستون والافاربعون فاذا حج فقد بلغ الستين وقد عمر واذا لم يحج فلا يجاوز الاربعين فقد نقص من عمره الذى هو الغاية وهو الستون وكذا ان تصدق او وصل الرحم فعمره ثمانون والا فخمسون واليه اشار عليه السلام بقوله
"الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان فى الاعمار" وفى الحديث "ان المرء ليصل رحمه وما بقى من عمره الا ثلاثة ايام فينسئه الله الى ثلاثين سنة وانه ليقطع الرحم وقد بقى من نعمره ثلاثون سنة فيرده الله الى ثلاثة ايام" وفى الحديث "بر الوالدين يزيد فى العمر والكذب ينقص الرزق والدعاء يرد القضاء"
قال بعض الكبار لم يختلف احد من علماء الاسلام فى ان حكم القضاء والقدر شامل لكل شئ ومنسحب على جميع الموجودات ولوازمها من الصفات والافعال والاحوال وغير ذلك. فما الفرق بين ما نهى النبى عليه السلام عن الدعاء فيه كالارزاق المقسومة والآجال المضروبة وبين ما حرّض عليه كطلب الاجارة من عذاب النار وعذاب القبر ونحو ذلك فاعلم ان المقدورات على ضربين ضرب يختص بالكليات وضرب يختص بالجزيئات التفصيلية فالكليات المختصة بالانسان قد اخبر عليه السلام انها محصورة فى اربعة اشياء وهى العمر والرزق والاجل والسعادة او الشقاء وهى لا تقبل التغير فالدعاء فيها لا يفيد كصلة الرحم الا بطريق الفرض يعنى لو امكن ان يبسط فى الرزق ويؤخر فى الاجل لكان ذلك بالصلة والصدقة فان لهما تأثيرا عظيما ومزّية على غيرهما ويجوز فرض المحال اذا تعلق بذلك الحكمة قال تعالى { قل ان كان للرحمن ولد فانا اول العابدين } واما الجزئيات ولوازمها التفصيلية فقد يكون ظهور بعضها وحصوله للانسان متوقفا على اسباب وشروط ربما كان الدعاء والكسب والسعى والعمل من جملتها بمعنى انه لم يقّدر حصوله بدون الشرط او الشروط.
وقال ابن الكمال اما الذى يقتضيه النظر الدقيق فهو ان المعمر الذى قدر له العمر الطويل يجوز ان يبلغ حد ذلك العمر وان لا يبلغه فيزيد عمره على الاول وينقص على الثانى ومع ذلك لا يلزم التغيير فى التقدير وذلك لان المقدر لكل شخص انما هو الانفاس المعدودة لا الايام المحدودة والاعوام المعدودة ولا خفاء فى ان ايام ما قدر من الانفاس تزيد وتنقص بالصحة والحضور والمرض والتعب فافهم هذا السر العجيب حتى ينكشف لك سر اختيار بعض الطوائف حبس النفس ويتضح وجه كون الصدقة والصلة سببا لزيادة العمر انتهى.
وقيل المراد من النقص ما يمر من عمره وينقص فانه يكتب فى الصحيفة عمره كذا وكذا سنة ثم يكتب تحت ذلك ذهب يوم ذهب يومان وهكذا حتى يأتى على آخره كما قال ابن عباس رضى الله عنهما ان الله تعالى جعل لكل نسمة عمرا تنتهى اليه فاذا جرى عليه الليل والنهار نقص من عمره بالضرورة وقد قيل نقصان العمر صرفه الى غير مرضاة الله تعالى: قال الحافظ قدس سره

فداى دوست نكرديم عمر ومال دريغ كه كار عشق زما اين قدر نمى آيد

وقال

اوقات خوش آن بود كه بادوست بسر رفت باقى همه بى حاصلى وبى خبرى بود

وقال المولى الجامى قدس سره

هردم از عمر كرامى هست كنج بى بدل ميرود كنج جنين هر لحظه برباد آه آه

وقال الشيخ سعدى قدس سره

هردم از عمر ميرود نفسى جون نكه ميكنم نمانده بسى
عر برفست وآفتاب تموز اندكى ماندو خواجه غره هنوز

ايقظنا الله واياكم