التفاسير

< >
عرض

إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ
١٢
-يس

روح البيان في تفسير القرآن

{ انا } من مقام كما قدرتنا والجمع للتعظيم ولكثرة الصفات.
وقال بعضهم لما فى احياء الموتى من حظ الملائكة وينافيه الحصر الدال على قوله { نحن }.
قال فى البحر كرر الضمير لتكرير التأكيد { نحيى الموتى } نبعثهم بعد مماتهم ونجزيهم على حسب اعمالهم فيظهر حينئذ كمال الاكرام والانتقام للمبشرين والمنذرين من الانام.
والاحياء جعل الشئ حيا ذا حس وحركة والميت من اخرج روحه وقد اطلق النبى عليه السلام لفظ الموتى على كل غنى مترف وسلطان جائر وذلك فى قوله عليه السلام
"اربع يمتن القلب الذنب على الذنب وكثرة مصاحبة النساء وحديثهن وملاحاة الاحمق تقول له ويقول لك ومجالسة الموتى قيل يا رسول الله وما مجالسة الموتى قال كل غنى مترف وسلطان جائر"
وفى التأويلات النجمية نحيى قلوبا ماتت بالقسوة بما نمطر عليها من صوب الاقبال والزلفة انتهى.
فالاحياء اذا مجاز عن الهداية { ونكتب } اى نحفظ ونثبت فى اللوح المحفوظ يدل عليه آخر الآية او يكتب رسلنا وهم الكرام الكاتبون وانما اسند اليه تعالى ترهيبا ولانه الآمر به { ما قدموا } اى اسلفوا من خير وشر وانما اخر الكتابة مع انها مقدمة على الاحياء لانها ليست مقصودة لذاتها وانما تكون مقصودة لامر الاحياء ولولا الاحياء والاعادة لما ظهر للكتابة فائدة اصلا { وآثارهم } اثر الشئ حصول ما يدل على وجوده اى آثارهم التى ابقوها من الحسنات كعلم علموه او كتاب الفوه او حبيس وقفوه او بناء شئ من المساجد والرباطات والقناطر وغير ذلك من وجوه البرّ قال الشيخ السعدى

تمرد آنكه ماند بس از وى بجاى بل ومسجد وخان مهمان سراى
هرآن كو نماند از بسش ياد كار درخت وجودش نياورد بار
وركرفت آثار خيرش نماند نشايد بس از مرك الحمد خواند

ومن السيآت كوظيفة وظفها بعض الظلمة على المسلمين مسانهة او مشاهرة وسكة احدثها فيها تحسيرهم وشئ احدث فيه صدّ عن ذكر الله من الحان وملاهى ونحوه قوله تعالى { ينبأ الانسان يومئذ بما قدم واخر } اى بما قدم من اعماله واخر من آثاره وفى المثنوى

هركه بنهد سنت بد اى فتى تادر افتد بعد او خلق از عمى
جمع كردد بر وى آن جملة بزه كوسرى بودست وايشان دم غزه

فعلى العدول ان يرفعوا الاحداث التى فيها ضرر بين الناس فى دينهم ودنياهم والا فالراضى كالفاعل وكل مجزى بعمله

از مكافات عمل غافل مشو كندم از كندم برويد جو زجو
كين جنين كفتست بير معنوى كاى برادر هرجه كارى بدروى

وقال بعض المفسرين هى آثار المشائين الى المساجد ولعل المراد انها من جملة الآثار كما فى الارشاد ـ روى ـ "ان جماعة من الصحابة بعدت دورهم عن المسجد النبوى فارادوا النقلة الى جوار المسجد فقال عليه السلام ان الله يكتب خطواتكم ويثيبكم عليها فالزموا بيوتكم" والله تعالى لا يترك الجزاء على الخطى سواء كانت فى حسنة او فى سيئة وفى الحديث "اعظم الناس اجرا من يصلى ثم ينام"
واختلف فيمن قربت داره من المسجد هل الافضل له ان يصلى فيه او يذهب الى الابعد فقالت طائفة الصلاة فى الابعد افضل لكثرة الثواب الحاصل بكثرة الخطى.
وقال بعضهم الصلاة فى الاقرب افضل لما ورد
"لا صلاة لجار المسجد الا فى المسجد" ولا حياء حق المسجد ولما له من الجوار وان كان فى جواره مسجد ليس فيه جماعة وبصلاته فيه يحصل الجماعة كان فعلها فى مسجد الجوار افضل لما فيه من عمارة المسجد واحيائه بالجماعة واما لو كان اذا صلى فى مسجد الجوار صلى وحده فالبعيد افضل ولو كان اذا صلى فى بيته صلى جماعة واذا صلى فى مسجد الجوار صلى وحده ففى بيته افضل.
قال بعضهم جار المسجد اربعون دارا من كل جانب.
وقيل جار المسجد من سمع النداء.
قال فى مجمع الفتاوى رجل لو كان فى جواره مسجدان يصلى فى اقدمهما لان له زيادة حرمة وان كانا سواء ايهما اقرب يصلى هناك وان كان فقيها يذهب الى الذى قومه اقل حتى يكثر بذهابه وان لم يكن فقيها يخير قالوا كل ما فيه الجماعة كالفرائض والتروايح فالمسجد فيه افضل فثواب المصلين فى البيت بالجماعة دون ثواب المصلين فى المسجد بالجماعة وفى الحديث
"صلاة الرجل فى جماعة تضعف على صلاته فى بيته وفى سوقه (خسمة وعشرين ضعفا) وفى رواية (سبعة وعشرين)" وذلك لان فرائض اليوم والليلة سبع عشرة ركعة والرواتب عشر فالجميع سبع وعشرون.
واكثر العلماء على ان الجماعة واجبة.
وقال بعضهم سنة مؤكدة وفى الحديث
"لقد هممت ان آمر رجلا يصلى بالناس وانظر الى اقوام يتخلفون عن الجماعة فاحرّق بيوتهم" وهذا يدل على جواز احراق بيت المتخلف عن الجماعة لان الهم على المعصية لا يجوز من الرسول عليه السلام لانه معصية فاذا جاز احراق البيت على ترك الواجب او السنة المؤكدة فما ظنك فى ترك الفرض وفى الحديث "بشروا المشائين فى الظلم الى المساجد بالنور التام يوم القيامة" وفيه اشارة الى ان كل ظلمة ليست بعذر لترك الجماعة بل الظلمة الشديدة واطلاق اللفظ يشعر بان المتحرى للافضل ينبغى ان لا يتخلف عن الجماعة بأى وجه كان الا ان يكون العذر ظاهرا والاعذار التي تبيح التخلف عن الجماعة هى المرض الذى يبيح التيمم ومثله كونه مقطوع اليد والرجل من خلاف او مفلوجا او لا يستطيع المشى او اعمى والمطر والطين والبرد الشديد والظلمة الشديدة فى الصحيح وكذا الخوف من السلطان او غيره من المتغلبين جعلنا الله واياكم ممن قام بامره فى جميع عمره { وكل شئ } من الاشياء كائنا ما كان سواء كان ما يصنعه الانسان او غيره وهو منصوب بفعل مضمر يفسره قوله { أحصيناه } ضبطناه وبيناه.
قال ابن الشيخ اصل الاحصاء العد ثم استعير للبيان والحفظ لان العد يكون لاجلهما.
وفى المفردات الاحصاء التحصيل بالعدد يقال احصيت كذا وذلك من لفظ الحصى واستعمال ذلك فيه لانهم كانوا يعتمدون عليه فى العد اعتمادنا فيه على الاصابع { فى امام مبين } اصل عظيم الشان مظهر لجميع الاشياء مما كان وما سيكون وهو اللوح المحفوظ سمى اماما لانه يؤتم به ويتبع.
قال الراغب الامام المؤتم به انسانا كان يقتدى بقوله وبفعله او كتابا او غير ذلك محقا كان او مبطلا وجمعه ائمة نحو قوله تعالى
{ { يوم ندعو كل اناس بامامهم } اى بالذى يقتدون به وقيل بكتابهم { وكل شئ احصيناه فى امام مبين } فقد قيل اشارة الى اللوح المحفوظ انتهى.
وفى الاحصاء ترغيب وترهيب فان المحصى لم يصح منه الغفلة فى حال من الاحوال بل راقب نفسه فى كل وقت ونفس وحركة وسكنة.
وخاصية هذا الاسم تسخير القلوب فمن قرأه عشرين مرة على كل كسرة من الخبز والكسر عشرون فانه يسخر له الخلق.
فان قلت ما فائدة تسخير الخلق.
قلت دفع المضرة او جلب المنفعة واعظم المنافع التعليم والارشاد واختار بعض الكبار ترك التصرف والالتفات الى جانب الخلق بضرب من الحيل فان الله تعالى يفعل ما يريد والا هم تسخير النفس الامارة حتى تنقاد للامر وتطيع للحق فمن لم يكن له امارة على نفسه كان ذليلا فى الحقيقة وان كان مطاعا فى الظاهر.
وفى التأويلات النجمية { وكل شئ } مما يتقربون به الينا { احصيناه فى امام مبين } اى اثبتنا آثاره وانواره فى لوح محفوظ قلوب احبابنا انتهى. واعلم ان قلب الانسان الكامل امام مبين ولوح الهى فيه انوار الملكوت منتقشة واسرار الجبروت منطبعة مما كان فى حد البشر دركه وطوق العقل الكلى كشفه وانما يحصل هذا بعد التصفية بحيث لم يبق فى القلب صورة ذرة مما يتعلق بالكونين ومعنى التصفية ازالة المتوهم ليظهر المتحقق فمن لم يدر المتوهم من المتحقق حرم من المتحقق: قال المولى الجامى قدس سره

سككى مى شد استخوان بدهان كرده ره بر كنار آب روان
بسكه آن آب صاف وروشن بود عكس آن استخوان در آب نمود
برد بيجاره سك كمان كه مكر هست درآب استخوان دكر
لب جو بكشاد سوى آن بستاد استخوان ازدهان در آب فتاد
نيست را هستئ توهم كرد بهرآن نيست هست را كم كرد

فعلى العاقل ان يجلو المرآة ليظهر صورة الحقيقة وحقيقة الوجود ويحصل كمال العيان والشهود نسأل الله سبحانه وتعالى ان يجعلنا من اهل الصفوة ويحفظنا من الكدورات والهفوة انه غاية المقصود ونهاية الامل من كل علم وعمل