التفاسير

< >
عرض

فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـآبٍ
٢٥

روح البيان في تفسير القرآن

{ فغفرنا له ذلك } اى ما استغفر منه وكان ذلك فى شهر ذى الحجة كما فى بحر العلوم ـ وروى ـ انه عليه السلام بقى فى سجوده اربعين يوما وليلة لا يرفع رأسه الا لصلاة مكتوبة او لما لا بد منه ولا يرقأ دمعه حتى نبت منه العشب حل رأسه ولم يشرب ماء الا ثلثاه دمع وجهد نفسه راغبا الى الله فى العفو عنه حتى كاد يهلك واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له يقال له ايشا على ملكه فاجتمع اليه اهل الزيغ من بنى اسرائيل فلما نزلت توبته بعد الاربعين وغفر له حاربه فهزمه وقد قال نبينا عليه السلام "اذا بويع لخليفتين" اى لأحدهما اولا وللآخر بعده "فاقتلوا الآخر منهما" لأنه كالباغى هذا اذا لم يندفع الا بقتله { وان له } اى داود { عندنا لزلفى } لقربة وكرامة بعد المنفرة كما وقع لآدم عليه السلام. والزلفى القربة والازلاف التقريب والازدلاف الاقتراب ومنه سميت المزدلفى لقربها من الموقف.
وعن مالك بن دينا فى قوله { وان له } الخ يقول الله تعالى لداود عليه السلام وهو قائم بساق العرش يا داود مجدنى بذلك الصوت الرخيم اللين فيقول كيف وقد سلبتنيه فى الدنيا فيقول انى ارده عليك فيرفع داود صوته بالزبور فيستفرغ نعيم اهل الجنة كما فى الوسيط { وحسن مآب } حسن مرجع فى الجنة.
وفى كشف الاسرار هو الجنة يعنى الجنة هى مآب الانبياء والاولياء ـ واصل هذه القصة ـ ان داود عليه السلام رأى امرأة رجل يقال له اوريا بن حنانا ويقال لها بنشاوع او بنشاويع بنت شايع فمال قلبه اليها وابتلى بعشقها وحبها من غير اختيار منه كما ابتلى نبينا عليه السلام بزينب رضى الله عنها لما رآها يوما حتى قال يا مقلب القلوب فسأله داود ان يطلقها فاستحيى ان يرده ففعل فتزوجها وهى ام سليمان عليه السلام وكان ذلك جائزا فى شريعته معتادا فيما بين امته غير مخل بالمروءة حيث كان يسأل بعضهم بعضا ان ينزل عن امرأته فيتزوجها اذا اعجبته خلا انه عليه السلام لعظم منزلته وارتفاع مرتبته وعلو شانه نبه بالتمثيل على انه لم يكن ينبغى له ان يتعاطى ما يتعاطاه آحاد امته ويسأل رجلا ليس له الا امرأة واحدة ان ينزل عنها فيتزوجها مع كثرة نسائه بل كان يجب عليه ان يصبر على ما امتحن به كما صبر نبينا عليه السلام حتى كان طالب الطلاق هو زوج زينب وهو زيد المذكور فى سورة الاحزاب لا هو عليه السلام اى لم يكن هو عليه السلام طالب الطلاق.
قال البقلى عشق داود عليه السلام لعروس من عرائس الحق حين تجلى الحق منها له فانه كان عاشق الحق فسلاه بواسطة من وسائطه وهذه القصة تسلية لقلب نبينا عليه الصلاة والسلام حيث اوقع الله فى قلبه محبة زينب فضاق صدره فقال سبحانه
{ { سنة من قد ارسلنا قبلك من رسلنا } وفرح بذلك وزاد له محبة الله والشوق الى لقائه.
قال ابو سعيد الخراز قدس سره زلات الانبياء فى الظاهر زلات وفى الحقيقة كرامات وزلف ألا ترى الى قصة داود حين احس باوائل امره كيف استغفر وتضرع ورجع فكان له بذلك عنده زلفى وحسن مآب صدق ابو سعيد فيما قال لان بلاء الانبياء والاولياء لا ينقص اصطفائيتهم بل يزيدهم شرفا على شرفهم وذلك لان مقام الخلافة مظهر الجمال والجلال فيتحقق بتجليات الجلال بالافتتان والابتلاء وفى ذلك ترق له كما قال فى التأويلات النجمية ان من شأن النبى والولى ان يحكم كل واحد منهم بين الخصوم بالحق كما ورد الشرع به بتوفيق الله وان الواجب عليهم ان يحكموا على انفسهم بالحق كما يحكمون على غيرهم كما قال تعالى
{ { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على انفسكم } فلما تنبه داود انه ما حكم على نفسه بالحق كما حكم على غيره استغفر ورجع الى ربه متضرعا خاشعا باكيا بقية العمر معتذرا عما جرى عليه فتقبل الله منه ورحم عليه وعفا عنه كما قال { فغفرنا له ذلك وان له عندنا لزلفى } اى لقربة بكل تضرع وخضوع وخشوع وبكاء وانين وحنين وتأوّه صدر منه { و } له بهذه المراجعات { حسن مآب } عندنا انتهى وفى الحديث "اوحى الله تعالى الى داود يا داود قل للعاصين اى يسمعونى ضجيج اصواتهم فانى احب ان اسمع ضجيج العاصين اذا تابوا الىّ يا داود لن يتضرع المتضرعون الى من هو اكرم منى ولا يسأل السائلون اعظم منى جودا وما من عبد يطيعنى الا وانا معطيه قبل ان يسألنى ومستجيب له قبل ان يدعونى وغافر له قبل ان يستغفرنى"
وقد انكر القاضى عياض ما نقله المؤرخون والمفسرون فى هذه القصة ووهى قولهم فيها ونقل عن ابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهم انهما قالا ما زاد داود على ان قال للرجل انزل لى عن امرأتك واكفلنيها فعاتبه الله على ذلك ونبه عليه وانكر عليه شغله بالدنيا قال وهذا هو الذى ينبغى ان يعول عليه من امره ـ وحكى ـ بعضهم ان اوريا كان خطب تلك المرأة: يعنى [اوريا آن زنرا خطبه كرده بود اورا بخواسته واز قوم وى اجابت يافته ودل بروى نهاد "فاما عقد نكاح" هنوز نرفته بود "فلما غاب اوريا" يعنى بغزا رفت] وكان من غزاة البلقاء ثم خطبها داود فزوجت منه لجلال قدره فاغتم لذلك اوريا فعاتبه الله على ذلك فكان ذنبه ان خطب على خطبة اخيه المسلم مع عدم احتياجه لانه كانت تحت نكاحه وقتئذ تسع وتسعون امرأة ولم يكن لاوريا غير من خطبها.
يقول الفقير دل نظم القرآن على الرواية فقوله
{ { اكفلنيها } دل على انها كانت تحت نكاح اوريا وايضا دل لفظ { { الخصم } على ان اوريا بصدد الخصام ولا يكون بهذا الصدد الا بكونها تحت نكاحه مطلوبة منه بغير حسن رضاه وصفاء قلبه ومجرد جواز استنزال الرجل عن امرأته فى شريعتهم لا يستلزم جواز الجبر فلما طلقها اوريا استحياء من داود بقيت الخصومة بينه وبين داود اذ كان كالجبر كما دل { { وعزنى فى الخطاب } فكان السائل العزيز الغالب فهاتان الروايتان اصح ما ينقل فى هذه القصة فانهم وان اكثروا القول فيها لكن الانبياء منزهون عما يشين بكمالهم او لا يزين بجمالهم خصوصا عما يقوله القصاص من حديث قتل اوريا وسببية داود فى ذلك بتزوج امرأته ولذلك قال على رضى الله عنه من حدث بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وذلك حد الفرية على الانبياء صلوات الله عليهم اجمعين.
وفى الفتوحات المكية فى الباب السابع والخمسين بعد المائة ينبغى للواعظ ان يراغب الله فى وعظه ويجتنب عن كل ما كان فيه تجر على انتهاك الحرمات مما ذكره المؤرخون عن اليهود من ذكر زلات الانبياء كداود ويوسف عليهما السلام مع كون الحق اثنى عليهم واصطفاهم ثم الداهية العظمى ان يجعل ذلك فى تفسير القرآن ويقول قال المفسرون كذا وكذا مع كون ذلك كله تأويلات فاسدة باسانيد واهية عن قوم غضب الله عليهم وقالوا فى الله ما قصه الله علينا فى كتابه وكل واعظ ذكر ذلك فى مجلسه مقته الله وملائكته لكونه ذكر لمن فى قلبه مرض من العصاة حجة يحتج بها ويقول اذا كان مثل الانبياء وقع فى مثل ذلك فأى شىء انا فعلم ان الواجب على الواعظ ذكر الله وما فيه تعظيمه وتعظيم رسله وعلماء امته وترغيب الناس فى الجنة وتحذيرهم من النار واهوال الموقف بين يدى الله تعالى فيكون مجلسه كله رحمة انتهى كلام الفتوحات على صاحبه اعلى التجليات.
قال الشيخ الشعرانى قدس سره فى الكبريت الاحمر وكذلك لا ينبغى له ان يحقق المناط فى نحو قوله تعالى
{ { ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } ولا نحو قوله { { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } وقوله { { ولا تزال تطلع على خائنة منهم الا قليلا } فان العامة اذا سمعوا مثل ذلك استهانوا بالصحابة ثم احتجوا بافعالهم انتهى كلامه.
قال حجة الاسلام الغزالىرحمه الله يحرم على الواعظ وغيره رواية مقتل الحسين رضى الله عنه وحكاياته وما جرى بين الصحابة من التشاجر والتخاصم فانه يهيج بغض الصحابة والطعن فيهم وهم اعلام الدين وما وقع بينهم من المنازعات فيحمل على محامل صحيحة فلعل ذلك الخطأ فى الاجتهاد لا لطلب الرياسة او الدنيا كما لا يخفى انتهى والحاصل ان معاصى الخواص ليست كمعاصى غيرهم بان يقعوا فيها بحكم الشهوة الطبيعية وانما تكون معاصيهم بالخطأ فى التأويل فاذا اظهر الله لهم فساد ذلك التأويل الذى اداهم الى ذلك الفعل حكموا على انفسهم بالعصيان وتابوا ورجعوا الى حكم العزيز المنان