التفاسير

< >
عرض

قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ
٣٥

روح البيان في تفسير القرآن

{ قال } سليمان وهو بدل من اناب وتفسير له { رب } [اى بروردكار من] { اغفر لى } ما صدر منى من الزلة التى لا تليق بشانى وتقديم الاستغفار على الاستيهاب الآتى لمزيد اهتمامه بامر الدين جريا على سنن الانبياء والصالحين وكون ذلك ادخل فى الاجابة { وهب لى } [وببخش مرا] { ملكا } [بادشاهى وتصرفى كه] { لا ينبغى } [نسزد ونشايد] { لاحد } من الخلق { من بعدى } الى يوم القيامة بان يكون الظهور به بالفعل فى عالم الشهادة فى الامور العامة والخاصة مختصا بى وهو الغاية التى يمكنه بلوغها دل على هذا المعنى قول نبينا عليه السلام "ان عفريتا من الجن" وهو الخبيث المنكر "تفلت علىّ البارحة" اى تعرض فى صورة هر كما فى حياة الحيوان.
قال فى تاج المصادر [التفلت بجستن] وفى الحديث
"ان عفريتا من الجن تفلت علىّ البارحة" اى تعرض له فلتة اى فجأة "ليقطع على صلاتى فامكننى الله منه" الامكان القدرة على الشىء مع ارتفاع الموانع اى اعطانى الله مكنة من اخذه وقدرة عليه "فاخذته فاردت ان اربطه" بكسر الباء وضمها اى اشده "على سارية من سوارى المسجد" اى اسطوانة من اساطينه "حتى تنظروا اليه كلكم ويلعب به ولدان اهل المدينة فذكرت دعوة اخى سليمان رب اغفر لى وهب لى ملكا لا ينبغى لاحد من بعدى فرددته خاسئا" اى ذليلا مطرودا لم يظفر بى ولم يغلب على صلاتى فدل على ان الملك الذى آتاه الله سليمان ولم يؤته احدا غيره من بعده هو الظهور بعموم التصرف فى عالم الشهادة لا التمكن منه فان ذلك مما آتاه الله غيره من الكمل نبيا كان او وليا ألا ترى ان نبينا عليه السلام قال "فامكننى الله منه" اى من العفريت فعلمنا ان الله تعالى قد وهب التصرف فيه بما شاء من الربط وغيره ثم ان الله تعالى ذكره فتذكر دعوة سليمان فتأدب معه كمال التأدب حيث لم يظهر بالتصرف فى الخصوص فكيف فى العموم فرد الله ذلك العفريت ببركة هذا التأدب خاسئا عن الظفر به. وكان فى وجود سليمان عليه السلام قابلية السلطنة العامة ولهذا الهمه الله تعالى ان يسأل الملك المخصوص به فلم يكن سؤاله للبخل والحسد والحرص على الاستبداد بالنعمة والرغبة فيها كما توهمه الجهلة. واما سلطان الانبياء صلى الله عليه وسلم فقد افنى جميع ما فى ملك وجوده من جهة الافعال والصفات فلم يبق شىء فظهر مكانه شىء لا يوصف حيث وقع تجلى الذات فى مرتبة لم ينلها احد من افراد الخلق سابقا ولا لاحقا وستظهر سلطنته الصورية ايضا بحيث يكون آدم ومن دونه تحت لوائه

در بزم احتشام تو سياره هفت جام وز مطبخ نوال تو افلاح نه طبق
هر خطبه كمال بنام تو شد ازل كس تا ابد زلوح نمىخوانده اين سبق

{ انك انت الوهاب } لجميع استعدادات كل ما سألت من الكمالات كما قال تعالى { وآتاكم من كل ما سألتموه
} وفى التأويلات النجمية بقوله { قال رب اغفر لى } الآية يشير الى معان مختلفة. منها انه لما اراد طلب الملك الذى هو رفعة الدرجة بنى الامر فى ذلك على التواضع الموجب للرفعة وهو قوله { رب اغفر لى }.
ومنها انه قدم طلب المغفرة على طلب الملك لانه لو كان طلب الملك زلة فى حق الانبياء كانت مسبوقة بالمغفرة لا يطالب بها. ومنها ان الملك مهما يكن فى يد مغفور له منظور بنظر العناية ما يصدر منه تصرف فى الملك الا مقرونا بالعدل والنصفة وهو محفوظ من آفات الملك وتبعاته. ومنها قوله { وهب لى ملكا لا ينبغى لاحد من بعدى } اى يكون ذلك موهوبا له بحيث لا ينزعه منه ويؤتيه من يشاء كما هى السنة الالهية جارية فيه.
ومنها قوله { لا ينبغى لاحد من بعدى } اى لا يطلبه احد غيرى لئلا يقع فى فتنة الملك على مقتضى قوله تعالى
{ { ان الانسان ليطغى ان رآه استغنى } فان الملك جالب للفتنة كما كان جالبا لها الى سليمان بقوله { { ولقد فتنا سليمان } . ومنها قوله { لا ينبغى لاحد من بعدي } اى لا يكون هذا الملك ملتمس احد منك غيرى للتمتع والانتفاع به وهو بمعزل عن قصدى ونيتى فى طلب هذا فان لى فى طلب هذا الملك نية لنفسى ونية لقلبى ونية لروحى ونية للممالك باسرها ونية للرعايا.
فاما نيتى لنفسى فتزكيتها عن صفاتها الذميمة واخلاقها اللئيمة وذلك فى منعها عن استيفاء شهواتها وترك مستلذاتها النفسانية بالاختيار دون الاضطرار وانما يتيسر ذلك عد القدرة الكاملة عليه بالمالكية والملكية بلا مانع ولا منازع وكماليته فى المملكة بحيث لا يكون فيها ما يحرك داعية من دواعى البشرية المركوزة فى جبلة الانسان ليكون كل واحدة من المشتهيات والمستلذات النفسانية محركة لداعية تناسبها عند تملكها والقدرة عليها عند توقان النفس اليها وغلبات هواها فيحرم على النفس مراضعها ويحرمها من مشاربها وينهاها عن هواها خالصا لله وطلبا لمرضاته فتموت النفس عن صفاتها كما يموت البدن عند اعواز فقدان ما هو غذاء يعيش به فاذا ماتت عن صفاتها الذميمة يحييها الله بالصفات الحميدة كما قال
{ { ولنحيينه حياة طيبة } وقال { { قد افلح من زكاها } فلا يبقى لها نظر الى الدنيا وسائر نعمها كما كان حال سليمان لم يكن له نظر الى الدنيا ونعيمها وانما كان مع تلك الوسعة فى المملكة يأكل كسرة من كسب يده مع جليس مسكين ويقول مسكين جالس مسكينا وامانيته لقلبه فتصفيته عن محبة الدنيا وزينتها وشهواتها وتوجيهه الى الآخرة بالاعراض عنها عند القدرة عليها والتمكن فيها ثم صرفها فى سبيل الله وقلع اصلها من ارض القلب ليبقى القلب صافيا من الدنس قابلا للفيض الالهى فانه خلق مرآة لجميع الصفات الالهية.
وامانيته لروحه فلتحيته بالاخلاق الحميدة الربانية ولا سبيل اليها الا بعلو الهمة وخلوص النية فان المرء يطير بهمته كالطائر يطير بجناحيه وتربية الهمة بحسب نيل المقاصد الدنيوية الدينية وصرفها فى نيل المراتب الدينية الاخروية الباقية وان ترك المقاصد الدنيوية الدينية وان كان اثر التربية الهمة ولكن لا يبلغ حد اثر صرف ما يملك من المقاصد الدنيوية لنيل الدرجات العلية فلما كان من اخلاق الله ان يحب معالى الامور ويبغض سفسافها التمس سليمان اقصى مراتب الدنيا ونهاية مقاصدها لئلا يلتفت ويستعملها فى تربية الهمة لتتخلى روحه بان يحسن اليهم ويؤلف قلوبهم ببذل المال والجاه فان القلوب جبلت على حب من احسن اليها فانهم اذا احبوا نبى الله لزمهم حب الله فيكون حب الله وحب نبيه فى قلوبهم محض الايمان ومن لم يمكن ان يؤمن بالاحسان فيدخلهم فى الايمان بالقهر والغلبة بان يأتيهم بجنود لم يروها كما ادخل بلقيس وقومها فى الايمان.
واما نيته للممالك فبان يجعل الممالك الدنيوية الفانية اخروية باقية بان يتوسل بها الى الحضرة بصرفها باظهار الدين واقامة الحق واعلاء كلمة الاسلام.
فان قيل قوله { لا ينبغى لاحد من بعدى } هل يتناول النبى عليه السلام اولا. قلنا اما بالصورة فيتناول ولكن لعلو همته وكمال قدره لا لعدم استحقاقه لانه
"عرض عليه صلى الله عليه وسلم ملك اعظم من ملكه فلم يقبله وقال الفقر فخرى" واما بالمعنى فلم يتناول النبى صلى الله عليه وسلم لانه قال "فضلت على الانبياء بست" يعنى على جميع الانبياء ولا خفاء فى ان سليمان عليه السلام ما بلغ درجة واحدة من اولى العزم من الرسل مع اختصاصه بصورة الملك منهم وهم معه مفضولون بست فضائل من النبى عليه السلام فمعنى الملك الحقيقى الذى كان ملك سليمان صورته بلا ريب يكون داخلا فى الفضائل التى اختصه الله بها واخبر عنها بقوله { { وكان فضل الله عليك عظيما } بل اعطاه الله ما كان مطلوب سليمان من صورة الملك ومعناه اوفر ما اعطى سليمان وفتنه به من غير زحمة مباشرة صورة الملك والافتتان به عزة ودلالا انتهى كلام التأويلات على مكاشفه اعلى التجليات