التفاسير

< >
عرض

أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٩
-الزمر

روح البيان في تفسير القرآن

{ امن } بالتشديد على ان اصله ام من والاستفهام بمعنى التقرير والمعنى الكافر القاسى الناسى خير حالا واحسن مالا ام من وهو عثمان بن عفان رضى الله عنه على الاشهر ويدخل فيه كل من كان على صفة التزكية ومن خفف الميم تبع المصحف لان فيه ميما واحدة فالالف للاستفهام دخلت على من ومعناه ام من { هو قانت } كمن ليس بقانت.
القنوت يجيىء على معانى. منها الدعاء فقنوت الوتر دعاؤه واما دعاء القنوت فالاضافة فيه بيانية كما فى حواشى اخى جلبى. ومنها الطاعة كما فى قوله تعالى
{ { والقانتات } . ومنها القيام فالمصلى قانت اى قائم وفى الفروع وطول القيام اولى من كثرة السجود لقوله عليه السلام "افضل الصلاة طول القنوت" اى القيام كما فى الدرر وفى الحديث "مثل المجاهد فى سبيل الله كمثل القانت الصائم" يعنى المصلى الصائم كما فى كشف الاسرار. والتعقيب بآناء الليل وبساجدا وقائما يخصصه اى القنوت بالقيام فالمعنى ام من هو قائم { آناء الليل } اى فى ساعاته واحده انى بكسر الهمزة وفتحها مع فتح النون وهو الساعة وكذا الانى والانو بالكسر وسكون النون يقال مضى انوان وانيان من الليل اى ساعتان { ساجدا } حال من ضمير قانت اى حال كونه ساجدا { وقائما } تقديم السجود على القيام لكونه ادخل فى معنى العبادة والواو للجمع بين الصفتين. والمراد بالسجود والقيام الصلاة عبر عنها بهما لكونهما من اعظم اركانها. فالمعنى قانت اى قائم طويل القيام فى الصلاة كما يشعر به آناء الليل لانه اذا قام فى ساعات الليل فقد اطال القيام بخلاف من قام فى جزء من الليل { يحذر الآخرة } حال اخرى على الترادف او التداخل او استئناف كأنه قيل ما باله يفعل القنوت فى الصلاة فقيل يحذر عذاب الآخرة لايمانه بالبعث { ويرجو رحمة ربه } اى المغفرة او الجنة لا انه يحذر ضرّ الدنيا ويرجو خيرها فقط كالكافر.
وفى التأويلات النجمية يشير الى القيام باداء العبودية ظاهرا وباطنا من غير فتور ولا تقصير { يحذر الآخرة } ونعيمها كما يحذر الدنيا وزينتها { ويرجو رحمة ربه } لا نعمة ربه انتهى.
ودلت الآية على ان المؤمن يجب ان يكون بين الخوف والرجاء يرجو رحمة ربه لعمله ويحذر عذابه لتقصيره فى عمله.
ثم الرجاء اذا جاوز حدّه يكون امنا والخوف اذاجاوز حدّه يكون اياسا وكل منهما كفر فوجب ان يعتدل كما قال عليه السلام
"لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا"

كرجه دارى طاعتى ازهيبتش ايمن مباش وركنه دارى زفيض رحمتش دل برمدار
نيك ترسان شوكه قهراوست بيرون ازقياس باش بس خوش دل كه لطف اوست افزون ازشمار

ثم فى الآية تحريض على صلاة الليل وعن ابن عباس رضى الله عنهما انه قال من احب ان يهوّن الله عليه الموقف يوم القيامة فليره الله فى سواد الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه كما فى تفسير الحدادى.
"قال ربيعة بن كعب الاسلمى رضى الله عنه كنت ابيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتيت بوضوئه وحاجته فقال لىسل فقلت اسألك مرافقتك فى الجنة فقال أو غير ذلك فقلت هو ذلك قال فاعن نفسك على كثرة السجود" اى بكثرة الصلاة.
قال بعض العارفين ان الله يطلع على قلوب المستيقظين فى الاسحار فيملأها نورا فترد الفوائد على قلوبهم فتستنير ثم تنتشر العوافى من قلوبهم الى قلوب الغافلين

خروسان درسحر كويدكه قم يا ايها الغافل سعادت آنكسى داردكه وقت صبح بيدارست

{ قل } بيانا للحق وتنبيها على شرف العلم والعمل { هل يستوى الذين يعلمون } حقائق الاعمال فيعملون بموجب علمهم كالقانت المذكور { والذين لا يعلمون } ما ذكر فيعملون بمقتضى جهلهم وضلالهم كالكافر. والاستفهام للتنبيه على كون الاولين فى اعلى معارج الخير وكون الآخرين فى اقصى مدارج الشر.
وفى بحر العلوم الفعل منزل منزلة اللازم ولم يقدّر له مفعول لان المقدر كالمذكور. والمعنى لا يستوى من يوجد فيه حقيقة العلم ومن لا يوجد { انما يتذكر اولوا الالباب } كلام مستقل غير داخل فى الكلام المأمور به وارد من جهته تعالى اى انما يتعظ بهذه البيانات الواضحة اصحاب العقول الخالصة من شوائب الخلل والوهم وهؤلاء بمعزل عن ذلك.
قيل قضية اللب الاتعاظ بالآيات ومن لم يتعظ فكأنه لا لب له ومثله مثل البهائم.
وفى المفردات اللب العقل الخالص من الشوائب وسمى بذلك لكونه خالص ما فى الانسان من قواه كاللباب من الشىء.
وقيل هو ما زكا من العقل فكل لب عقل وليس كل عقل لبا ولذا علق الله تعالى الاحكام التى لا تدركها الا العقول الزكية باولى الالباب نحو قوله
{ { ومن يؤت الحكمة فقد اوتى خيرا كثيرا وما يذكر الا اولوا الالباب } ونحو ذلك من الآيات انتهى.
وفى التأويلات النجمية { هل يستوى الذين يعلمون } قدر جوار الله وقربته ويختارونه على الجنة ونعيمها { والذين لا يعلمون } قدره { انما يتذكر } حقيقة هذا المعنى { اولوا الالباب } وهم الذين انسلخوا من جلد وجودهم بالكلية وقد ماتوا عن انانيتهم وعاشوا بهويته انتهى.
وفى الآية بيان لفضل العلم وتحقير للعلماء الغير العاملين فهم عند الله جهلة حيث جعل القانتين هم العلماء.
قال الشيخ السهروردى فى عوارف المعارف ارباب الهمة اهل العلم الذين حكم الله تعالى لهم بالعلم فى قوله تعالى { امن من هو قانت آناء الليل } الى قوله { قل هل يستوى } الخ حكم لهؤلاء الذين قاموا بالليل بالعلم فهم لموضع علمهم ازعجوا النفوس عن مقار طبيعتها ورقوها بالنظر الى اللذات الروحانية الى ذرى حقيقتها فتجافت جنوبهم عن المضاجع وخرجوا من صفة الغافل الهاجع انتهى.
وفى الحديث
"يشفع يوم القيامة ثلاث الانبياء ثم العلماء ثم الشهداء"
وقال ابن عباس رضى الله عنهما خير سليمان بن داود عليهما السلام بين العلم والمال والملك فاختار العلم فاعطى المال والملك ـ وفى الخبر ـ ان الله تعالى ارسل جبرائيل الى آدم عليهما السلام بالعقل والحياء والايمان فخيره بينهن فاختار العقل فتبعاه وفى بعض الروايات ارسل بالعلم والحياء والعقل فاستقر العلم فى القلب والحياء فى العين والعقل فى الدماغ وفى الحديث "من احب ان ينظر الى عتقاء الله من النار فلينظر الى المتعلمين فوالذى نفسى بيده ما من متعلم يختلف الى باب العلم الا كتب الله له بكل قدم عبادة سنة وبنى له بكل قدم مدينة فى الجنة ويمشى على الارض تستغفر له ويستغفر له كل من يمشى على الارض ويمسى ويصبح مغفور الذنب وشهدت الملائكة هؤلاء عتقاء الله من النار"
وذكر ان شرف العلم فوق شرف النسب ولذا قيل ان عائشة رضى الله عنها افضل من فاطمة رضى الله عنها ولعله المراد بقول الامالى

وللصدّيقة الرجحان فاعلم على الزهراء فى بعض الخصال

لان النبى عليه السلام قال "خذوا ثلثى دينكم من عائشة" واما اكثر الخصال فالرجحان للزهراء على الصدّيقة كما دل عليه قوله عليه السلام "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد" وفى الحديث "طلب العلم فريضة على كل مسلم"
قال فى الاحياء اختلف الناس فى العلم الذى هو فرض على كل مسلم.
فقال المتكلمون هو علم الكلام اذ به يدرك التوحيد ويعلم ذات الله وصفاته.
وقال الفقهاء هو علم الفقه اذ به يعرف العبادات والحلال والحرام.
وقال المفسرون والمحدثون هو علم الكتاب والسنة اذ بهما يتوصل العلوم كلها.
وقال المتصوفة هو علم التصوّف اذ به يعرف العبد مقامه من الله تعالى. وحاصله ان كل فريق نزل الوجوب على العلم الذى هو بصدده قوله
"على كل مسلم" اى مكلف ذكرا كان او انثى.
قال فى شرح الترغيب مراده علم ما لا يسع الانسان جهله كالشهادة باللسان والاقرار بالقلب واعتقاد ان البعث بعد الموت ونحوه حق وعلم ما يجب عليه من العبادات وامر معايشه كالبيع والشراء فكل من اشتغل بامر شرعىّ يجب طلب علمه عليه مثلا اذا دخل وقت الصلاة تعين عليه ان يعرف الطهارة وما يتيسر من القرآن ثم تعلم الصلاة وان ادركه رمضان وجب عليه ان ينظر فى علم الصيام وان اخذه الحج وجب عليه حينئذ علمه وان كان له مال وحال عليه الحول تعين عليه علم زكاة ذلك الصنف من المال لا غير وان باع او اشترى وجب عليه علم البيوع والمصارفة وهكذا سائر الاحكام لا يجب عليه الا عند ما يتعلق به الخطاب.
فان قيل يضيق الوقت على نيل علم ما خوطب به فى ذلك الوقت قلنا لسنا نريد عند حلول الوقت المعين وانما نريد بقربه بحيث ان يكون له من الزمان بقدر ما يحصل ذلك العلم المخاطب به ويدخل عقيبه وقت العمل وهذا المذكور هو المراد بعلم الحال فعلم الحال بمنزلة الطعام لا بد لكل احد منه وعلم ما يقع فى بعض الاحايين بمنزلة الدواء يحتاج اليه فى بعض الاوقات.
وقال فى عين العلم المراد المكاشفة فيما ورد
"فضل العالم على العابد كفضلى على امتى" اذ غيره وهو علم المعاملة تبع للعمل لثبوته شرطا له وكذا المراد المعاملة القلبية الواجبة فيما ورد "طلب العلم فريضة على كل مسلم" اى يفترض عليه علم احوال القلب من التوكل والانابة والخشية والرضى فانه واقع فى جميع الاحوال وكذلك فى سائر الاخلاق نحو الجود والبخل والجبن والجراءة والتكبر والتواضع والعفة والشره والاسراف والتقتير وغيرها ويمتنع ان يراد غير هذه المعاملات اما التوحيد فللحصول واما الصلاة فلجواز ان يتأهلها شخص وقت الضحى بالاسلام او البلوغ ومات قبل الظهر فلا يفترض عليه طلب علم تلك الصلاة فلا يستقيم العموم المستفاد من لفظة كل وكذا المراد علم الآخرة مطلقا اى مع قطع النظر عن المعاملة والمكاشفة فيما ورد { قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون } لئلا يفضل علماء الزمان على الصحابة فمجادلة الكلام والتعمق فى فتاوى ندر وقوعها محدث وبالجملة علم التوحيد اشرف العلوم لشرف معلومه وكل علم نافع وان كان له مدخل فى التقرب الى الله تعالى الا ان القربة التامة انما هى بالعلم الذى اختاره الصوفية المحققون على ما اعترف به الامام الغزالىرحمه الله فى منقذ الضلال. وكان المتورعون من علماء الظاهر يعترفون بفضل ارباب القلوب ويحلفون الى مجالسهم. وسأل بعض الفقهاء ابا بكر الشبلى قدس سره اختبارا لعلمه وقال كم فى خمس من الابل فقال اما الواجب فشاة واما عندنا فكلها لله فقال وما دليلك فيه قال ابو بكر رضى الله حين خرج عن جميع ماله لله ولرسوله فمن خرج عن ماله كله فامامه ابو بكر رضى الله عنه ومن ترك بعضه فامامه عمر رضى الله عنه ومن اعطى لله ومنع لله فامامه عثمان رضى الله عنه ومن ترك الدنيا لاهلها فامامه على رضى الله عنه فكل علم لا يدل على ترك الدنيا فليس بعلم وقد قال عليه السلام "اعوذ بك من علم لا ينفع" وهو العلم الذى لا يمنع صاحبه عن المنهى ولا يجره الى المأمور به.
وفى كشف الاسرار [علم سه است علم خبرى وعلم الهامى وعلم غيبى. علم خبرى كوشها شنود. وعلم الهامى دلها شنود. وعلم غيبى جانها شنود. علم خبرى بروايت است. علم الهامى بهدايت است. علم غيبى بعنايت است. علم خبرى راكفت
{ { فاعلم انه لا اله الا الله } "فقدم العلم لانه امام العمل" علم الهامى راكفت { { ان الذين اوتوا العلم من قبله } علم غيبى راكفت { { وعلمناه من لدنا علما } ووراى اين همه علمىاست كه وهم آدمى بدان نرسد وفهم ازان درماند] وذلك علم الله عز وجل بنفسه على حقيقته قال الله تعالى { { ولا يحيطون به علما
} قال الشبلى قدس سره العلم خبر والخبر جحود وحقيقة العلم عندى بعد اقوال المشايخ الاتصاف بصفة الحق من حيث علمه حتى يعرف ما فى الحق.
وقال بعض الكبار المقامات كلها علم والعلم حجاب اى ما لم يتصل بالمعلوم ويفنى فيه وكذا الاشتغال بالقوانين والعلوم الرسمية حجاب مانع عن الوصول وذلك لان العلم الالهى الذى يتعلق بالحقائق الالهية لا يحصل الا بالتوجه والافتقار التام وتفريغ القلب وتعريته بالكلية عن جميع المتعلقات الكونية والعلوم والقوانين الرسمية واما علم الحال فمن مقدمات السلوك فحجبه مانع لا هو نفسه وعينه ولا يدعى احد ان العلم مطلقا حجاب وكيف يكون حجابا وهو سبب الكشف والعيان لكن لا بد من فنائه فى وجود العالم وفناء ما يقتضيه من الافتخار والتكبر والازدراء بالغير ونحوها ولكون بقائه حجابا قلما سلك العلماء بالرسوم نسأل الله سبحانه ان يزين ظواهرنا بالشرائع والاحكام وينور بواطننا بانواع العلوم والالهام ويجعلنا من الذين يعلمون وهم الممدوحون لا من الذين لا يعلمون وهم المذمومون آمين وهو المعين