التفاسير

< >
عرض

يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً
١٧١
-النساء

روح البيان في تفسير القرآن

{ يا اهل الكتاب } الخطاب للنصارى خاصة { لا تغلوا فى دينكم } اى لا تتجاوزوا الحد فى دينكم بالافراط فى رفع شأن عيسى وادعاء الوهيته والغلو مجاوزة الحد.
واعلم ان الغلو والمبالغة فى الدين والمذهب حتى يجاوز حده غير مرضى كما ان كثيرا من هذه الامة غلوا فى مذهبهم فمن ذلك مذهب الغلاة من الشيعة فى امير المؤمنين على بن ابى طالب كرم الله وجهه حتى ادعوا الهيته وكذلك المعتزلة غلوا فى التنزيه حتى نفوا صفات الله وكذا المشبهة غلوا فى اثبات الصفات حتى جسموه تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ولدفع الغلو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
"لا تطرونى كما اطرت النصارى عيسى ابن مريم"
.اى لا تتجاوزوا عن الحد فى مدحى كما بالغ النصارى فى مدح عيسى حتى ضلوا وقالوا انه ولد الله "وقولوا عبد الله ورسوله"
.اى قولوا فى حقى انه عبد الله ورسوله وفى تقديم العبد على الرسول كما فى التحيات ايضا نفى لقول اليهود والنصارى فان اليهود قالوا عزير ابن الله والنصارى المسيح ابن الله فنحن نقوله عبده ورسوله والغلو من العصبية وهى من صفات النفس المذمومة والنفس هى امارة بالسوء لا تأمر الا بالباطل

مبر طاعت نفس شهوت برست كه هر ساعتش قبله ديكرست

{ ولا تقولوا على الله الا الحق } اى لا تصفوه بما يستحيل اتصافه من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد بل نزهوه عن جميع ذلك. قوله الا الحق استثناء مفرغ ونصبه على انه مفعول به نحو قلت خطبة او نعت مصدر محذوف اى الا القول الحق وهو قريب من المعنى الاول { انما المسيح } مبتدأ وهو لقب من الالقاب المشرفة كالصديق والفاروق واصله بالعبرية مشيحا ومعناه المبارك { عيسى } بدل منه معرب من ايشوع { ابن مريم } صفة مفيدة لبطلان ما وصفوه به من نبوته له تعالى. ومريم بمعنى العابدة وسميت مريم مريم ليكون فعلها مطابقا لاسمها ولكون عيسى عليه السلام منسوبا الى امه تدعى الناس يوم القيامة باسماء امهاتهم ويدل عليه حديث التلقين بعد الدفن حيث يقال يا فلان ابن فلانة وفى النسبة الى الامهات ستر منه تعالى للعباد ايضا { رسول الله } خبر للمبتدأ اى انه مقصور على رتبة الرسالة لا يتخطاها وهذا هو القول الحق { وكلمته } عطف على رسول الله اى تكون بكلمته وامره الذى هو كن من غير واسطة اب ولا نطفة فان تكوين الخلق كله وان كان بكلمة كن له ولكن بالوسائط فان تعلق كن بتكوين الآباء قبل تعلقه بتكوين الابناء فلما كان تعلق امر كن بعيسى فى رحم مريم من غير تعلقه بتكوين اب له تكون عيسى بكلمة كن وكن هى كلمة الله فعبر عن ذلك بقوله وكلمته القاها الى مريم يدل عليه قوله انه مثل عيسى عند الله يعنى فى التكوين كمثل آدم خلقه من تراب يعنى سوى جسمه من تراب ثم قال له يعنى عند بعث روحه الى القالب كن فيكون وانما ضرب مثله بآدم فى التكوين لانه ايضا تكون بكلمة كن من غير واسطة اب { القاها الى مريم } اى اوصلها اليها وحصلها فيها بنفخ جبريل عليه السلام { وروح منه } عطف على كلمته ومنه صفة لروح ومن لابتداء الغاية مجازا لا تبعيضية كما زعمت النصارى لاستحالة التجزى على الله تعالى ـ وروى ـ انه كان لهارون الرشيد طبيب نصرانى وكان غلاما حسن الوجه جدا وكان كامل الادب جامعا للخصال التى يتوصل بها الى الملوك وكان الرشيد مولعا بان يسلم وهو يمتنع وكان الرشيد يمنيه الامانى ان اسلم فأبى فقال له ذات يوم مالك لا تؤمن قال ان فى كتابكم حجة على من انتحله قال وما هى قال قوله تعالى { وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه } فعنى بهذا ان عيسى عليه السلام جزء منه فضاق قلب الرشيد وجمع العلماء فلم يكن فيهم من يزيل شبهته حتى قيل له قد وفد حجاج من خراسان وفيهم رجل يقال له على بن الحسين بن واقد من اهل مرو وهو امام فى علم القرآن فدعاه فجمع بينه وبين الغلام فسأله الغلام عن ذلك فاستعجم عليه الجواب فى الوقت وقال قد علم الله يا امير المؤمنين فى سابق علمه ان هذا الخبيث يسألنى فى مجلسك هذا وانه لم يخل كتابه عن جوابه وانه ليس يحضرنى الآن ولله علىّ ان لا اطعم ولا اشرب حتى اؤدى الذى يجب من الحق ان شاء الله تعالى ودخل بيتا مظلما واغلق عليه بابه واندفع فى قراءة القرآن حتى بلغ من سورة الجاثية { { وسخر لكم ما فى السموات وما فى الارض جميعا منه } [الجاثية: 13].
فصاح باعلى صوته افتحوا الباب فقد وجدت الجواب ففتحوا ودعا الغلام فقرأ عليه الآية بين يدى الرشيد وقال ان كان قوله وروح منه يوجب ان يكون عيسى بعضا منه وجب ان يكون ما فى السموات وما فى الارض بعضا منه فانقطع النصرانى واسلم وفرح الرشيد فرحا شديدا ووصل على بن الحسين الواقدى المروزى بصلة جيدة فلما عاد على بن الحسين الى مرو صنف كتابا سماه كتاب النظائر فى القرآن وهو كتاب لا يوازيه كتاب. قيل معنى كونه روحا انه ذو روح صادر منه تعالى كسائر ذوى الارواح الا انه تعالى اضاف روحه الى نفسه تشريفا. وقيل المراد بالروح هو الذى نفخ جبرائيل عليه فى درع مريم فدخلت تلك النفخة بطنها فحملت باذن الله من ذلك النفخ سمى النفخ روحا لانه كان ريحا يخرج من الروح واضاف تعالى نفخة جبريل الى نفسه حيث قال وروح منه بناء على ان ذلك النفخ الواقع من جبريل كان باذن الله تعالى وامره فهو منه.
وعن ابى بن كعب انه قال ان الله تعالى لما اخرج الارواح من ظهر آدم لاخذ الميثاق عليهم ثم ردهم الى صلبه امسك عنده روح عيسى الى ان اراد خلقه ثم ارسل ذلك الروح الى مريم فدخل فى فيها فكان منه عيسى عليه السلام. قيل خلق عيسى عليه السلام من ماء مريم ومن النفخ لا من احدهما فقط وهو الاصح عند المحققين. قيل خرج فى ساعة النفخ. وقيل بعد المدة الكاملة بعد ثمانية اشهر والاول هو الاصح.
وفى التأويلات النجمية ان شرف الروح على الاشياء بانه ايضا كعيسى تكون بامر كن بلا واسطة شىء آخر فلما تكون الروح بامر كن وتكون عيسى بامر كن سمى روحا منه لان الامر منه تعالى كما قال
{ { قل الروح من امر ربى } [الإسراء: 85].
فكما ان احياء الاجسام الميتة من شأن الروح اذ ينفخ فيها فكذلك كان عيسى من شأنه احياء الموتى وابراء الاكمه والابرص باذن الله وكذلك كان ينفخ فى الطين فيكون طيرا باذن الله تعالى.
واعلم ان هذا الاستعداد الروحانى الذى هو من كلمة الله مركوز فى جبلة الانسان وخلق منه اى من الامر وانما اظهره الله فى عيسى من غير تكلف منه فى السعى لاستخراج هذا الجوهر من معدنه لان روحه لم يركز فى اصلاب الآباء وارحام الامهات كارواحنا فكان جوهره ظاهرا فى معدن جسمه غير مخفى ببشرية اب وجوهرنا مخفى فى معدن جسمنا ببشرية آبائنا الى آدم فمن ظهور انوار جوهر روحه كان الله تعالى يظهر عليه انواع المعجزات فى بدء طفوليته ونحن نحتاج فى استخراج الجوهر الروحانى من المعدن الجسمانى الى نقل صفات البشرية المتولدة من بشرية الآباء والامهات عن معادننا باوامر استاذ هذه الصنعة ونواهيه وهو النبى عليه السلام كما قال تعالى
{ { وما ءآتٰاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [الحشر: 7].
فمن تخلص جوهر روحانيته من معدن بشريته وانسانيته يكون عيسى وقته فيحيى الله بانفاسه القلوب الميتة ويفتح به اذانا صما وعيونا عميا فيكون فى قومه كالنبى فى امته فافهم جدا: وفى المثنوى

عيسى اندر مهد دارد صد نفير كه جوان نا كشته ماشيخيم وبير
بير بير عقل بايد اى بسر نى سفيدى موى اندرريش وسر
جون كرفتى بيرهين تسليم شو همجو موسى زيرحكم خضرشو
دست را مسبار جز دردست بير حق شدست آن دست اورادستكير
جون بدارى دست خوددردست بير بير حكمت كو عليم است وخبير

ثم اعلم انه لما كان النافخ جبرائيل والولد سرّ ابيه كان الواجب ان يظهر عيسى على صورة الروحانيين والجواب انه انما كان على صورة البشر ولم يظهر على صورة الروحانيين لان الماء المحقق عند التمثل كان فى امه وهى بشر ولاجل تمثل جبريل ايضا عند النفخ بالصورة البشرية لانها اكمل الصور كما اشار صلى الله تعالى عليه وسلم فى تجلى الربوبية بصورة شاب قطط وظهور جبريل بصورة دحية فافهم والصورة التى تشهدها الام وتخيلها حال المواقعة لها تأثير عظيم فى صورة الولد حتى قيل ونقل فى الاخبار ان امرأة ولدت ولدا صورته صورة البشر وجسمه جسم الحية فلما سئلت عنها اخبرت انها رأت حية عند المواقعة.
وسمع ان امرأة ولدت ولد له اعين اربع ورجلاه كرجل الدب وكانت قبطية جامعها زوجها وهى ناظرة الى دبين كان عند زوجها ولله اسرار فى تكوين الاجساد كيف يشاء وهو على كل شىء قدير كذا فى حل الرموز { فآمنوا بالله } وخصوه بالالوهية { ورسله } اجمعين وصفوهم بالرسالة ولا تخرجوا بعضهم عن سلكهم بوصفه بالالوهية يعنى ان عيسى من رسله فآمنوا به كايمانكم بسائر الرسل ولا تجعلوه آلها { ولا تقولوا ثلثة } اى الآلهة ثلاثة الله والمسيح ومريم ويشهد عليه قوله تعالى
{ { ءأنت قلت للناس اتخذونى وامى إلٰهين من دون الله } [المائدة: 116].
او الله ثلاثة ان صح انهم يقولون الله ثلاثة اقانيم اقنوم الاب واقنوم الابن واقنوم روح القدس وانهم يريدون بالاول الذات وقيل الوجود وبالثانى العلم وبالثالث الحياة { انتهوا } اى عن التثليث { خيرا لكم } اى انتهاء خيرا لكم او ائتوا خيرا لكم من القول بالتثليث { انما الله إلٰه واحد } اى واحد بالذات منزه عن التعدد بوجه من الوجوه فالله مبتدأ واله خبره وواحد نعت اى منفرد فى آلهيته { سبحانه ان يكون له ولد } اى اسبحه تسبيحا من ان يكون له ولد او سبحوه تسبيحا من ذلك فانه يتصور له مثل ويتطرق اليه فناء فان التوالد انما هو لحفظ النوع من الانقراض فلذلك لم تتوالد الملائكة ولا اهل الجنان فمن كان نشأته وتكوّنه للبقاء اذا لم يكن له ولد مع كونه حادثا ذا امثال فبالاولى ان لا يتخذ الله تعالى ولدا وهو ازلى منزه عن الامثال والاشياه: وفى المثنوى

لم يلد لم يولد است اوازقدم نه بدر دارد نه فرزند ونه عم

{ له ما فى السموات وما فى الارض } مستأنفة مسوقة لتعليل التنزيه وتقريره اى له ما فيهما من الموجودات خلقا وملكا وتصرفا لا يخرج من ملكوته شىء من الاشياء التى من جملتها عيسى فكيف يتوهم كونه ولدا له تعالى.
قال ابن الشيخ فى حواشيه انه تعالى فى كل موضع نزه نفسه عن الولد ذكر ان جميع ما فى السموات والارض مختص به خلقا وملكا للاشارة الى ان ما زعمه المبطلون انه ابن الله وصاحبته مملوك مخلوق له لكونه من جملة ما فى السموات وما فى الارض فلا تتصور المجانسة والمماثلة بين الخالق والمخلوق والمالك والمملوك فكيف يعقل مع هذا توهم كونه ولدا له وزوجة { وكفى بالله وكيلا } اليه يكل كل الخلق امورهم وهو غنى عن العالمين فأنى يتصور فى حقه اتخاذ الولد الذى هو شأن العجزة المحتاجين فى تدبير امورهم الى من يخلفهم ويقوم مقامهم او يعينهم دلت الآية على التوحيد

كل شىء ذاته لى شاهد انما الله اله واحد

ومطلب اهل التوحيد اعلى المطالب وهو وراء الجنات وذوقهم لا يعادله نعيم ـ حكى ـ ان وليا يقال له سكرى بابا يكون له فى بعض الاوقات استغراق اياما حتى يظنونه ميتا ويضعون على فمه فداما فانتبه يوما فاراد ان يطلق زوجته ويترك اولاده وقال كنت فى مجلس النبى عليه السلام فى الملكوت مع الارواح وكان النبى عليه السلام يفسر قوله تعالى { { وآلهكم اله واحد } [البقرة: 163].
يتكلم فى مراتب التوحيد على كرسى قوائمه اربع من الانوار الاربعة على حسب المراتب الاربع اى من النور الاسود فى مرتبة الطبيعة ومن النور الاحمر فى مرتبة النفس ومن النور الاخضر فى مرتبة الروح ومن النور الابيض فى مرتبة السر فقيل لى فى العرش ارسلوا سكرى بابا فان اولاده يبكون فلاجل ذلك اريد ان اترك الكل فتضرعوا وحلفوا بان لا يفعلوا مثل ذلك ابدا ففرغ ووجه التمسية بذلك انه كان يعطى سكر الكل من يطلبه حتى طلبوا فى الحمام امتحانا له فضرب برجله رحام الحمام قال خذوه فانقلب سكرا فاعتقدوه وزالت شبهتهم.
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى الملكوت ليس فى الفوق بل الملك والملكوت عندك هنا فان الله تعالى منزه عن الزمان والمكان والذهاب والاياب وهو معكم اينما كنتم فللسالك مرتبة ينظر فيها الى الله والى الحق ويسمى تلك بالمعية ثم بعد ذلك اذا وصل الى الفناء الكلى واضمحل وجوده يسمى ذلك بمقام الجمع ففى ذلك المقام لا يرى السالك ما سوى الله تعالى كمن احاطه نور لا يرى الظلمة ألا يرى ان من نظر الى الشمس لا يرى غيرها وتلك الرؤية ليس بحاسة البصر ولا كرؤية الاجسام بل كما ذكر العلماء وكمل الاولياء والانبياء صلوات الله عليهم اجمعين والموحد اذا كان موحدا يوصله التوحيد الى الملكوت والجبروت واللاهوت اعنى الموحد يتخلص من الاثنينية ومن التقيد بالاكوان والاجسام والارواح فيشاهد عند ذلك سر قوله تعالى
{ { انما الله اله واحد } [النساء: 171].
اللهم اجعلنا من الواصلين.