التفاسير

< >
عرض

فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلْكَافِرُونَ
٨٥
-غافر

روح البيان في تفسير القرآن

{ فلم يك } اصله لم يكن حذفت النون لكثرة استعماله { ينفعهم ايمانهم } اى تصديقهم بالوحدانية اضطرارا وقوله ايمانهم يجوز ان يكون اسم كان وينفعهم خبره مقدما عليه وان يكون فاعل ينفعهم واسم كان ضمير الشان المستتر فيه { لما رأوا بأسنا } اى عند رؤية عذابنا والوقوع فيه لامتناع قبوله حينئذ امتناعا عاديا كما يدل عليه قوله { سنة الله } الخ زيرا دروقت معاينه عذاب تكليف مرتفع ميشود وايمان در زمان تكليف مقبولست نه دروقت يأس] فامتنع القبول لانهم لم يأتوا به فى الوقت المأمور به ولذلك قيل فلم يك بمعنى لم يصح ولم يستقم فانه ابلغ فى نفى النفع من لم ينفعهم ايمانهم وهذه الفاء للعطف على آمنوا كأنه قيل فآمنوا فلم ينفعهم لان النافع هو الايمان الاختيارى الواقع مع القدرة على خلافه ومن عاين نزول العذاب لم يبق له القدرة على خلاف الايمان فلم ينفعه وعدم نفعه فى الدنيا دليل على عدم نفعه فى الآخرة { سنة الله التى قد خلت فى عباده } قوله سنة من المصادر المؤكدة وخلت من الخلوّ يستعمل فى الزمان والمكان لكن لما تصور فى الزمان المضى فسر اهل اللغة قولهم خلا الزمان بقولهم مضى وذهب اى سن الله عدم قبول ايمان من آمن وقت رؤية البأس ومعاينته سنة ماضية فى عباده مطردة اى فى الامم السالفة المكذبة كلها ويجوز ان ينتصب سنة على التحذير اى احذروا سنة الله المطردة فى المكذبين السابقين. والسنة الطريقة والعادة المسلوكة وسنة الله طريقة حكمته { وخسر هنالك الكافرون } قوله هنالك اسم مكان فى الاصل موضوع للاشارة الى المكان قد استعير فى هذا المقام للزمان لانه لما اشير به الى مدلول قوله { { لما رأوا بأسنا } ولما للزمان تعين ان يراد به الزمان تشبيها له بالمكان فى كونه ظرفا للفعل كالمكان. والمعنى على ما قال ابن عباس رضى الله عنهما هلك الكافرون بوحدانية الله المكذبون وقت رؤيتهم البأس والعذاب.
وقال الزجاج الكافر خاسر فى كل وقت ولكنه تبين لهم خسرانهم اذا رأوا العذاب ولم يرج فلاحهم ولم يقل وخسر هنالك المبطلون كما فيما سبق لانه متصل بايمان غير مجدد ونقيض الايمان الكفر كما فى برهان القرآن اى فحسن موقعه كما حسن موقع قوله المبطلون على ما عرف سره فى موقعه.
اعلم ان فى ايمان البأس واليأس تفاصيل اقررها لك فانظر ماذا ترى قال فى الامالى

وما ايمان شخص حال بأس بمقبول لفقد الامتثال

قوله بأس بالباء الموحدة وبسكون الهمزة لم يقل يأس بالياء المثناة لموافقة قوله تعالى{ فلم يك ينفعهم ايمانهم لما رأوا بأسنا } فاشتمل على ما بالموحدة والمثناة واصل البأس الشدة والمضرة وحال البأس هو وقت معاينة العذاب وانكشاف ما جاءت به الاخبار الالهية من الوعد والوعيد وحال اليأس هو وقت الغرغرة التى تظهر عندها احكام الدار الآخرة عليه بعد تعطيل قواه الحسية ويستوى فى حال البأس بالموحدة الايمان والتوبة لقوله تعالى { فلم يك ينفعهم } الآية ورجاء الرحمة انما يكون فى وقته وبظهور الوعيد خرج الوقت من اليد ولم يتصور الامتثال ووقع الايمان ضروريا خارجا عن الاختيار ألا ترى ان ايمان الناس لا يقبل عند طلوع الشمس من مغربها لانه ايمان ضرورى فلا يعتبر لانه يجوز ان يكون ايمان المضطر لغرض النجاة من الهلاك بحيث لو تخلص لعاد لما اعتاد.
وقد قال العلماء الرغبة فى الايمان والطاعة لا تنفع الا اذا كانت تلك الرغبة رغبة فيه لكونه ايمانا وطاعة. واما الرغبة فيه لطلب الثواب وللخوف من العقاب فغير مفيد كما فى حواشى الشيخ فى سورة الانعام: وفى المثنوى

آن ندامت از نتيجه رنج بود بى زعقل روشن جون كنج بود
جونكه شد رنج آن ندامت شدعدم مى نيرزد خاك آن توبه ندم
ميكند او توبه و بير خرد بانك لوردوا لعادوا ميزند

فيكون الايمان والندم وقت ظهور الوعيد الدنيوى كالايمان والندم وقت وجود الوعيد الاخروى بلا فرق فكما لا ينفع هذا كذلك لا ينفع ذاك لان الآخرة وما فى حكمها من مقدماتها فى الحكم سواء ولذلك ورد من مات فقد قامت قيامته وذلك لان زمان الموت آخر زمان من ازمنة الدنيا واول زمان من ازمنة الآخرة فباتصال زمان الموت بزمان القيامة كان فى حكمه فايمان فرعون وامثاله عند الغرق ونحوه من قبيل ما ذكر من الايمان الاضطرارى الواقع عند وقوع الوعيد الذى ظهوره فى حكم ظهور احوال الآخرة ومشاهدته فى حكم مشاهدة العذاب الاخروى. فحال البأس بالموحدة كحال الغرغة من غير فرق فكما لا يقبل الايمان حال الغرغرة فكذا حال البأس ففرعون مثلا لم يقبل ايمانه حال الغرق لكونه حال البأس وان كان قبل الغرغرة فافهم جدا فانه من مزالق الاقدام.
واما ايمان اليأس بالياء المثناة التحتية وهو الايمان بعد مشاهدة احوال الآخرة ولا تكون الا عند الغرغرة ووقت نزع الروح من الجسد ففى كتب الفتاوى انه غير مقبول بخلاف توبة اليأس فانها مقبولة على المختار على ما فى هداية المهديين لان الكافر اجنبى غير عارف بالله وابتدأ ايمانا والفاسق عارف وحاله حال البقاء والبقاء اسهل من الابتداء. فمثل ايمان اليأس شجر غرس فى وقت لا يمكن فيه النماء ومثل توبة اليأس شجر نابت اثمر فى الشتاء عند ملاءمة الهواء. والدليل على قبول التوبة مطلقا قوله تعالى
{ { وهو الذى يقبل التوبة عن عباده } هكذا قالوا وهو يخالف قوله تعالى { { وليست التوبة للذين يعملون السيآت حتى اذا حضر احدهم الموت قال انى تبت الآن
} قال البغوى فى تفسيره لا تقبل توبة عاص ولا ايمان كافر اذا تيقن بالموت انتهى ومراده عند الاشراف على الموت والصيرورة الى حال الغرغة والا فقد قال المحققون قرب الموت لا يمنع من قبول التوبة بل المانع من قبولها مشاهدة الاحوال التى عندها يحصل العلم بالله تعالى على سبيل الاضطرار على ما فى حواشى ابن الشيخ فى سورة النساء.
وقرب الموت لا ينافى التيقن بالموت بظهور اسبابه واماراته دل عليه قوله تعالى
{ { كتب عليكم اذا حضر احدكم الموت ان ترك خيرا الوصية } الآية اى عند حضور اماراته وظهور آثاره من العلل والامراض اذ لا اقتدار على الوصية عند حضور نفس الموت. ومن هذا القبيل ما فى روضة الاخبار من انه قال عمرو بن العاص رضى الله عنه عند احتضاره لابنه عبد الله يا بنىّ من يأخذ المال بما فيه من التبعات فقال من جدع الله انفه ثم قال احملوه الى بيت مال المسلمين ثم دعا بالغل والقيد فلبسهما ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ان التوبة مبسوطة ما لم يغرغر ابن آدم بنفسه" ثم استقبل القبلة فقال "اللهم امرتنا فعصينا ونهيتنا فارتكبنا هذا مقام العائذ بك فان تعف فاهل العفو انت وان تعاقبت فبما قدمت يداى لا اله الا انت سبحانك انى كنت من الظالمين" فمات وهو مغلول مقيد فبلغ الحسن بن على رضى الله عنهما فقال استسلم الشيخ حين ايقن بالموت ولعله ينفعه انتهى. واتى بصيغة الترجى لانه لا قطع وهو من باب الارشاد ايضا على ما حكى "انه لما مات عثمان بن مظعون رضى الله عنه وهو اخوه عليه السلام من الرضاعة وغسل وكفن قبل النبى عليه السلام بين عينيه وبكى وقالت امرأته خولة بنت حكيم رضى الله عنها طبت هنيئا لك الجنة يا ابا السائب فنظر اليها النبى عليه السلام نظرة غضب وقال وما يدريك فقالت يا رسول الله مارسك وصاحبك فقال عليه السلام وما ادرى ما يفعل بى" فاشفق الناس على عثمان رضى الله عنه.
ثم ان السبب فى عدم قبول التوبة عند الاحتضار انا مكلفون بالايمان الغيبى لقوله تعالى
{ { الذين يؤمنون بالغيب } وفى ذلك الوقت يكون الغيب عيانا فلا تصح. وايضا لا شبهة فى ان كل مؤمن عاص يندم عند الاشراف على الموت وقد ورد (ان التائب من الذنب كمن لا ذنب له) فيلزم منه ان لا يدخل احد من المؤمنين النار وقد ثبت ان بعضهم يدخلونها. واما قولهم ان من شرط التوبة عن الذنب العزم على ان لا يعود اليه وذلك انما يتحقق مع ظن التائب التمكن من العود فيخالفه ما قال الآمدى انه اذا اشرف على الموت اى قرب من الاحتضار فندم على فعله صحت توبته باجماع السلف وان لم يتصور منه العزم على ترك الفعل لعدم تصور الفعل فهو مستثنى من عموم معنى التوبة وهو الندم على الماضى والترك فى الحال والعزم على ان لا يعود فى المستقبل كما فى شرح العقائد للمولى رمضان.
واما اطلاق الآية التى هى قوله تعالى
{ { وهو الذى يقبل التوبة عن عباده } فمقيد بالآية السابقة وهى قوله تعالى { { وليست التوبة } الآية وبقوله عليه السلام "ان الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" اخرجه الترمذى من حديث ابن عمر رضى الله عنهما وهو يشمل توبة المؤمن والكافر فالايمان وكذا التوبة لا يعتبر حالة اليأس بالمثناة بخلافهما قبل هذه الحالة ولو بقليل من الزمان رحمة من الله تعالى لعباده المذنبين. فمعنى الاحتضار هو وقت الغرغرة وقرب مفارقة الروح من البدن لا حضور اوائل الموت وظهور مقدماته مطلقا وقس عليه حال البأس بالموحدة.
بقى انه
"لما قتل على رضى الله عنه من قال لا اله الا الله قال عليه السلام لم قتلته يا على قال على علمت انه ما قال بقلبه فقال عليه السلام هل شققت قلبه" فهذا يدل على ان ايمان المضطر والمكره صحيح مقبول ولعله عليه السلام اطلع بنور النبوة على ايمان ذلك المقتول بخصوصه فقال فى حقه ما قال والعلم عند الله المتعال هذا.
وذهب الامام مالك الى ان الايمان عند اليأس بالمثناة مقبول صحيح فقالوا ان الايمان عند التيقن صحيح عنده لو لم يرد الدليل ذلك الايمان فايمان فرعون مثلا مردود عنده بدليل قوله
{ { آلآن وقد عصيت قبل } الآية وانما لم يرده مالك مطلقا لعدم النصوص الدالة عنده على عدم صحة الايمان فى تلك الساعة هكذا قالوا وفيه ضعف تام ظاهر واسناده الى مالك لا يخلو عن سماحة كما لا يخفى هذا ما تيسر لى فى هذا المقام من الجمع والترتيب والترجيح والتهذيب ثم اسأل الله لى ولكم ان يشد عضدنا بقوة الايمان ويحلينا بحلية العيان والايقان ويختم لنا بالخير والحسنى ويبشرنا بالرضوان والزلفى ويجعلنا من الطائرين الى جنابه والنازلين عند بابه واللائقين بخطابه بحرمة الحواميم وما اشتملت عليه من السر العظيم
تمت حم المؤمن يوم السبت الثامن والعشرين من ذى القعدة الشريف من شهور سنة اثنتي عشرة ومائة والف