التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ
١١
-فصلت

روح البيان في تفسير القرآن

{ ثم استوى الى السماء } شروع فى بيان كيفية التكوين اثر بيان كيفية التقدير ولعل تخصيص البيان بما يتعلق بالارض واهلها لما ان بيان اعتنائه تعالى بامر المخاطبين وترتب مبادى معايشهم قبل خلقهم مما يحملهم على الايمان ويزجرهم عن الكفر والطغيان.
وبيان ثم يجيئ بعد تمام الآيات. والاستواء ضد الاعوجاج من قولهم استوى العود اذا اعتدل واستقام حمل فى هذا المقام على معنى القصد والتوجه لان حقيقته من صفات الاجسام وخواصها والله تعالى متعال عنها. والمعنى ثم قصد نحو السماء بارادته ومشيئته قصدا سويا وتوجه اليه توجها لا يلوى على غيره اى من غير ارادة خلق شىء آخر يضاهى خلقها يقال استوى الى مكان كذا كالسهم المرسل اذا توجه اليه توجها مستويا من غير ان يلوى على غيره. وفى ثم اظهار كمال العناية بابداع العلويات { وهى دخان } الواو للحال والضمير الى السماء لانها من المؤنثات السماعية والدخان اجزاء ارضية لطيفة ترتفع فى الهواء مع الحرارة.
وفى المفردات الدخان العثان المستصحب للهب والبخار اجزاء مائية رطبة ترتفع فى الهواء مع الشعاعات الراجعة من سطوح المياه. والمعنى والحال ان السماء دخان اى امر ظلمانى يعد كالدخان وهو المرتفع من النار فهو من قبيل التشبيه البليغ واطلاق السماء على الدخان باعتبار المآل.
قال الراغب قوله تعالى { وهى دخان } اى هى مثل الدخان اشارة الى انها لا تماسك بها انتهى. عبر بالدخان عن مادة السماء يعنى الهيولى والصورة الجسمية او عن الاجزاء المتصغرة التى ركبت هى منها يعنى الاجزاء التى لا تتجزأ واظلامها ابهامها قبل حلول المنور كما فى الحواشى السعدية ولما كانت اول حدوثها مظلمة صحت تسميتها بالدخان تشبيها لها به من حيث انها اجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور كالدخان فانه ليس له صورة تحفظ تركيبه كما فى حواشى ابن الشيخ.
وقال بعضهم وهى دخان اى دخان مرتفع من الماء يعنى السماء بخار الماء كهيئة الدخان: وبالفارسية [وحال آنكه دخان بود يعنى بخار آب بهيآت دخان] كما فى تفسير الكاشفى ـ يروى ـ ان اول ما خلق الله العرش على الماء والماء ذاب من جوهرة خضراء او بيضاء فاذابها ثم القى فيها نارا فصار الماء يقذف بالغثاء فخلق الارض من الغثاء ثم استوى الى الدخان الذى صار من الماء فسمكه سماء ثم بسط الارض فكان خلق الارض قبل خلق السماء وبسط الارض وارساء الجبال وتقدير الارزاق وخلق الاشجار والدواب والبحار والانهار بعد خلق السماء لذلك قال الله تعالى
{ { والارض بعد ذلك دحاها } هذا جواب عبد الله بن عباس رضى الله عنهما لنافع ابن الارزق الحرورى

كفىرا منبسط سازدكه اين فرشيست بس لايق بخاريرا برافرازدكه اين سقفيست بس زيبا
ازان سقف معلق حسن تصويرش بود ظاهر بدين فرش مطبق لطف تدبيرش بودبيدا

{ فقال لها } اى للسماء { وللارض } التى قدر وجودها ووجود ما فيها { ائتيا } اى كونا واحدثا على وجه معين وفى وقت مقدر لكل منكما هو عبارة عن تعلق ارادته تعالى بوجودهما تعلقا فعليا بطريق التمثيل بعد تقدير امرهما من غير ان يكون هناك آمر ومأمور كما فى قوله كن بان شبه تأثير قدرته فيهما وتأثرهما عنها بامر آمر نافذ الحكم يتوجه نحو المأمور المطيع فيتمثل امره فعبر عن الحالة المشبهة بما يعبر به عن الحالة المشبهة بها { طوعا او كرها } مصدران واقعان فى موقع الحال. والطوع الانقياد ويضاده الكره اى حال كونكما طائعتين منقادتين او كارهتين اى شئتما ذلك او ابيتما وهو تمثيل لتحتم تأثير قدرته تعالى فيهما واستحالة امتناعهما من ذلك لا اثبات الطوع والكره لهما لانهما من اوصاف العقلاء ذوى الارادة والاختيار والارض والسماء من قبيل الجمادات العديمة الارادة والاختيار { قالتا اتينا طائعين } اى منقادين وهو تمثيل لكمال تأثرهما بالذات عن القدرة الربانية وحصولهما كما امرتا به وتصوير لكون وجودهما كما هما عليه جاريا على مقتضى الحكمة البالغة فان الطوع منبىء عن ذلك والكره موهم لخلافه.
فان قلت انما قيل طائعين على وزن جمع العقلاء الذكور لا طائعتين حملا على اللفظ او طائعات حملا على المعنى لانها سموات وارضون. قلت باعتبار كونهما فى معرض الخطاب والجواب فلما وصفتا باوصاف العقلاء عوملتا معاملة العقلاء وجمعتا لتعدد مذلولهما ونظيره ساجدين فى قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام
{ { انى رأيت احد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين
} وفى التأويلات النجمية يشير الى انه بالقدرة الكاملة انطق السماء والارض المعدومة بعد ان اسمعها خطاب ائتيا طوعا او كرها لتجيبا وقالتا اتينا طائعين وانما ذكرهما بلفظ التأنيث فى البداية لانهما كانتا معدومتين مؤنثتين وانما ذكرهما فى النهاية بلفظ التذكير لانه احياهما واعقلهما وهما فى العدم فاجابا بقولهما اتينا طائعين جواب العقلاء وفى حديث "ان موسى عليه السلام قال يا رب لو ان السموات والارض حين قلت لهما ائتيا طوعا او كرها عصتاك ما كنت صانعا بهما قال كنت آمر دابة من دوابى فتبتلعهما قال يا رب واين تلك الدابة قال فى مرج من مروجى قال واين ذلك المرج قال فى علم من علمى"
قال بعضهم اجاب ونطق من الارض اولا موضع الكعبة ومن السماء ما بحذائها فجعل الله تعالى لها حرمة على سائر الارض حتى كانت كعبة الاسلام وقبلة الانام ويقال اجابه من الارض اولا الاردن من بلاد الشام فسمى لسان الارض واما اول بلدة بنيت على وجه الارض فهى بلخ بخراسان بناها كيومرث ثم بنى الكوفة ابنه هوسنك وكيومرث من اولاد مهلائيل بن قينان بن انوش بن شيث كان عمره سبعمائة سنة.
وقال ابن عباس رضى الله عنهما اصل طينة النبى عليه السلام من سرة الارض بمكة فهذا يشعر بانه ما اجاب من الارض الا ذرة المصطفى وعنصر طينة المجتبى عليه السلام فلهذا دحيت الارض من تحت الكعبة وكانت ام القرى فهو عليه السلام اصل الكل فى التكوين روحا وجسدا والكائنات باسرها تبع له ولهذا يقال النبى الامى لانه ام الكل واسه.
فان قلت ورد فى الخبر الصحيح
"تربة كل شخص مدفنه" فكان يقتضى ان يكون مدفنه عليه السلام بمكة حيث كانت تربته منها. قلت لما تموج الماء رمى ذلك العنصر الشريف والزبد اللطيف والجوهر المنيف فوقع جوهره عليه السلام الى ما يحاذى تربته بالمدينة المنورة وفى تاريخ مكة ان عنصره الشريف كان فى محله يضيئ الى وقت الطوفان فرماه الموج فى الطوفان الى محل قبره الشريف لحكمة الهية وغيرة ربانية يعرفها اهل الله تعالى ولذا لا خلاف بين علماء الامة فى ان ذلك المشهد الاعظم والمرقد الاكرم افضل من جميع الاكوان من العرش والجنان. فذهب الامام مالك واستشهد بذلك وقال لا اعرف اكبر فضل لابى بكر وعمر رضى الله عنهما من انهما خلقا من طينة رسول الله عليه السلام لقرب قبرهما من حضرة الروضة المقدسة المفضلة على الاكوان باسرها وكان عليه السلام مكيا مدنيا وحنينه الى مكة لتلك المناسبة وتربته وبالمدينة الحكمة.
قال الامام السهروردىرحمه الله لما قبض عزرائيل عليه السلام قبضة الارض وكان ابليس قد وطىء الارض بقدميه فصار بعض الارض بين قدميه وبعضها موضع اقدامه فخلقت النفوس الامارة من مماس قدم ابليس فصارت النفوس الامارة مأوى الشرور وبعض الارض لم يصل اليها قدم ابليس فمن تلك التربة اصل طينة الانبياء والاولياء عليهم السلام وكانت طينة رسول الله موضع نظر الله من قبضة عزرائيل لم تمسها قدم ابليس فلم يصبه حظ جهل النفس الامارة بل صار منزوع الجهل موفرا حظه من العلم فبعثه الله بالعلم والهدى وانتقل من قلبه الشريف الى القلوب الشريفة ومن نفسه القدسيه المطمئنة فوقعت المناسبة فى اصل طهارة الطينة فكل من كان اقرب مناسبة فى ذلك الاصل كان اوفر حظا من القبول والتسليم والكمال الذاتى ثم بعض من كان اقرب مناسبة الى النبى عليه السلام فى الطهارة الذاتية واوفر حظا من ميراثه اللدنى قد ابعد فى اقاصى الدنيا مسكنا ومدفنا وذلك لا ينافى قربه المعنوى فان ابعاده فى الارض كابعاد النبى عليه السلام من مكة الى المدينة بحسب المصلحة: قال الحافظ

كرجه دوريم بياد تو قدح مينوشيم بعد منزل نبود درسفر روحانى