التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
١٠١
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ
١٠٢
-المائدة

روح البيان في تفسير القرآن

{ يا ايها الذين آمنوا لا تسألوا عن اشياء ان تبد لكم تسؤكم وان تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } ـ روى ـ انه لما نزلت { { ولله على الناس حج البيت } [آل عمران: 97].
قال سراقة بن مالك أكل عام فاعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اعاد ثلاثا فقال
"لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم فاتركونى ما تركتكم فانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على انبيائهم فاذا امرتكم بامر فخذوا منه ما استطعتم واذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه"
.فنزلت "وعن ابن عباس رضى الله عنهما انه عليه السلام كان يخطب ذات يوم غضبان من كثرة ما يسألون عنه مما لا يعنيهم فقال لا اسأل عن شىء الا اجبت فقال رجل اين ابى فقال فى النار.
وقال آخر من ابى فقال حذافة وكان يدعى لغيره"
فنزلت { ان تبد لكم } الشرطية وما عطف عليها صفتان لاشياء والمساءة معلقة بالابداء والابداء معلق بالسؤال. فالمعنى لا تسألوا عن اشياء ان تسألوا عنها فى زمان الوحى تظهر لكم وان تظهر لكم تغمكم والعاقل لا يفعل ما يغمه. قال البغوى فان من سأل عن الحج لم يأمن ان يأمر به فى كل عام فيسوءه ومن سأل عن نسبه لم يأمن ان يلحقه بغيره فيفتضح { عفا الله عنها } استئناف مسوق لبيان ان نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتهم عن المساءة بل لانها فى نفسها معصية مستتبعة للمؤاخذة وقد عفا عنها وفيه من حثهم على الجد فى الانتهاء عنها ما لا يخفى وضمير عنها للمسألة المدلول عليها بلا تسألوا اى عفا الله عن مسألتكم السالفة حيث لم يفرض عليكم الحج فى كل عام جزاء بمسألتكم وتجاوز عن عقوبتكم الاخروية بسبب مسألتكم فلا تعودوا الى مثلها { والله غفور حليم } اى مبالغ فى مغفرة الذنوب والاغضاء عن المعاصى ولذلك عفا عنكم ولم يؤاخذكم بعقوبة ما فرط منكم فالجملة اعتراض تذييلى مقرر لعفوه تعالى { قد سألها قوم } اى سألوا هذه المسألة لكن لا عينها بل مثلها فى كونها محظورة ومستتبعة للوبال وعدم التصريح بالمثل للبالغة فى التحذير { من قبلكم } متعلق بسألها { ثم اصبحوا بها } اى بسببها { كافرين } فان بنى اسرائيل كانوا يستفتون انبياءهم فى اشياء فاذا امروا تركوها فهلكوا كما سأل قوم ثمود صالحا الناقة وسأل قوم عيسى مائدة.
قال ابو ثعلبة ان الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن اشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا عن اشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها.
قال الحسين الواعظ الكاشفى فى تفسيره [بس نيكبخت آنست كه از حال ديكران عبرت كيردبقول وفعل فضولى اشتغالى ننمايد ودرين باب كفته اند]

بكوى آنجه كفتن ضرورت شود دكر كفته هارا فروبنددر
بجاى آر فعلى كه لازم بود زافعال بى حاصل اندر كذر

وكان رجل يحضر مجلس ابى يوسف كثيرا ويطيل السكوت فقال له يوما مالك لا تتكلم ولا تسأل عن مسألة قال اخبرنى ايها القاضى متى يفطر الصائم قال اذا غابت الشمس قال فان لم تغب الى نصف الليل فتبسم وتمثل ببيت جرير

وفى الصمت زين للخلى وانما صحيفة لب المرء ان يتكلما

وفى الحديث "عجبت من بنى آدم وملكاه على نابيه فلسانه قلمهما وريقه مدادهما كيف يتكلم فيما لا يعنيه"
.والاشارة فى الآيتين ان الله تعالى نهى اهل الايمان ان يتعلموا العلوم اللدنية وحقائق الاشياء بطريق السؤال لانها ليست من علوم القال وانما هى من علوم الحال فقال { يا ايها الذين آمنوا لا تسألوا عن اشياء } اى عن حقائق اشياء { ان تبد لكم } بيانها بطريق القال { تسؤكم } اذ لم تهتدوا الى الحقائق ببيان القال فتقع عقولكم المشوبة بآفات الهوى والوهم والخيال فى الشبهات فتتهالكوا فى اوديتها كما كان حال طوائف الفلاسفة اذ طلبوا علوم حقائق الاشياء بطريق القال والبراهين المعقولة فما كانت منها مندرجة تحت نظر العقول المجردة عن شوائب الوهم والخيال اصابوها وما ضاق نطاق العقول عن دركها استزلهم الشيطان عند البحث عن الصراط المستقيم واوقعهم فى اودية الشبهات وبوادى الهلكات فهلكوا واهلكوا خلقا عظيما بتصانيفهم فى العلوم الالهية وبعضهم خلطوها بعلم الاصول وقرروا شبهاتهم فيها فضلوا واضلوا عن سواء السبيل وما علموا ان تعلم علوم الحقائق بالقال محال وان تعلمها انما يحصل بالحال كما كان حال الانبياء مع الله فقد علمهم علوم الحقائق بالاراءة لا بالرواية فقال تعالى { { وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض } [الأنعام: 75].
وقال فى حق النبى عليه السلام
{ { لنريه من آياتنا } [الإسراء: 1].
وقال
{ { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } [النجم: 18].
وقال عليه السلام
"ارنا الاشياء كما هى"
.وكما كان حال الامة مع النبى عليه السلام كان يعلمهم الكتاب بالقال والحكمة بالحال بطريق الصحة وتزكية نفوسهم عن شوائب آفات النفس واخلاقها كقوله تعالى { { يتلوا عليهم ءآياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } [الجمعة: 2].
وقال تعالى فيمن تحقق له فوائد الصحة على موائد المتابعة
{ { سنريهم ءآياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } [فصلت: 53].
ثم قال { وان تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } اى وان كان لا بد لكم من السؤال عن حقائق الاشياء فاسألوا عنها بعد نزول القرآن اى من القرآن ليخبركم عن حقائقها على قدر عقولكم. اما العوام منكم فيؤمنون بمتشابهات القرآن فانها بيان حقائق الاشياء ويقولون كل من عند ربنا ولا يتصرفون فيها بقولهم طلبا للتأويل فانه لا يعلم تأويلها الا الله والراسخون فى العلم وهم الخواص. واما اخص الخواص فيفهمون مما يشير القرآن اليه من حقائق الاشياء بالرموز والاشارات والمتشابهات ما لا يفهم غيرهم كما اشار بقصة موسى والخضر الى ان تعلم العلم اللدنى انما يكون بالحال فى الصحبة والمتابعة والتسليم وترك الاعتراض على الصاحب المعلم لا بالقال ولا بالسؤال لقوله تعالى
{ { هل اتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معى صبرا } [الكهف: 66].
يعنى فى المتابعة وترك الاعتراض
{ { قال ستجدنى إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا قال فإن اتبعتنى فلا تسألنى عن شىء } [الكهف: 69-70].
يعنى ان من شرط المتابعة ترك السؤال عن افعال المعلم وغيرها فلما لم يستطع موسى معه صبرا ليتعلم بالحال وفتح باب القال والسؤال فقال اخرقتها لتغرق اهلها اقتلت نفسا زكية فما واساه الخضر وقال
{ { الم أقل لك إنك لن تستطيع معى صبرا قال } [الكهف: 75-76].
يعنى موسى
{ { ان سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبنى } [الكهف: 76].
يشير الى ان تعلم العلم اللدنى بالحال فى الصحبة والمتابعة والتسليم لا بالقال والسؤال وفى السئوال الانقطاع عن الصحبة فافهم جدا فلما عاد فى الثالثة الى السؤال وقال
{ { لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بينى وبينك } [الكهف: 77-78].
ثم قال
{ { عفا الله عنها } [المائدة: 101].
اى عما سألتم وطلبتم من علوم الحقائق بالقال قبل نزول هذه الآية { والله غفور } لمن تاب ورجع الى الله فى طلب علوم الحقائق بالقال والسؤال { حليم } لمن يطلب بالحال يحلم عنهم فى اثناء ما يصدر منهم مما ينافى امر الطلب الى ان يوفقهم لما يوافق الطلب ثم قال { قد سألها قوم من قبلكم } يعنى من مقدمى الفلاسفة فقد شرعوا فى طلب العلوم الالٰهية بالقال ونظر العقل فوقعوا فى اودية الشبهات { ثم اصبحوا بها كافرين } اى بسبب الشبهات التى وقعوا فيها بتتبع القيل والقال وكثرة السؤال وترك متابعة الانبياء عليهم السلام كذا فى التأويلات النجمية.