التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤٠
-المائدة

روح البيان في تفسير القرآن

{ ألم تعلم ان الله له ملك السموات والارض } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد به الجميع والاستفهام الانكارى لتقرير العلم والمراد بذلك الاستشهاد على قدرته تعالى على ما سيأتى من التعذيب والمغفرة على ابلغ وجه واتمه اى ألم تعلم ان الله له السلطان القادر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلى فيهما وفيما فيهما ايجادا واعداما واحياء واماتة الى غير ذلك حسبما تقتضيه مشيئته { يعذب من يشاء } ان يعذبه ولو على الذنب الصغير وهو عدل منه { ويغفر لمن يشاء } ان يغفر له ولو كان الذنب عظيما وهو الفضل منه اى يعذب لمن توجب الحكمة تعذيبه ويغفر لمن توجب الحكمة مغفرته { والله على كل شىء قدير } فيقدر على ما ذكر من التعذيب والمغفرة.
قال ابن الشيخ انه تعالى لما اوجب قطع يد السارق وعقاب الآخرة لمن مات قبل التوبة ثم ذكر انه يقبل توبته ان تاب اردفه ببيان انه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فيعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء يحسن منه التعذيب تارة والمغفرة اخرى لانه مالك جميع المحدثات وربهم وإلٰههم والمالك له ان يتصرف فى ملكه كيف شاء واراد لا كما زعمت المعتزلة من ان حسن افعاله تعالى ليس لاجل كونه آلٰه للخلق ومالكا بل لاجل كونها على وفق مصالح الخلق ومتضمنة لرعاية ما هو الاصلح لهم انتهى.
واعلم ان السرقة هى اخذ مكلف خفية قدر عشرة دراهم مضروبة من حرز لا ملك له فيه ولا شبهته فاحترز بالمكلف عن اخذ صبى ومجنون وبالخفية وهو ركن السرقة عن الغصب وقطع الطريق. وقوله قدر عشرة دراهم اى عينا او قيمة وهذا نصباب السرقة فى حق القطع واما فى حق العيب فاخذ ما دون العشرة يعد سرقة ايضا شرعا ويعد عيبا حتى يرد العبد به على بائعه وعند الشافعى نصاب السرقة ربع دينار ولنا قوله عليه السلام
"لا قطع الا فى ربع دينا او فى عشرة دراهم"
.والاخذ بالاكثر اولى احتيالا لدرء الحد والمعتبر فى هذه الدراهم ما يكون عشرة منها وزن سبعة مثاقيل واحترز بالمضروبة عما قيمته دونها حتى اذا سرق تبرا عشرة لا يساوى عشرة مضروبة لا يجب القطع وقوله من حرز اى من مال ممنوع من ان يصل اليه يد الغير سواء كان المانع بناء او حافظا.
قال البغوى اذا سرق شيئاً من غير حرز كثمر فى حائط لا حارس له او حيوان فى برية لا حافظ له او متاع فى بيت منقطع عن البيوت لا قطع عليه وقيد بقوله ولا شبهته لانه لو كان له شبهة فى المسروق كما اذا سرق من بيت المال اوفى الحرز كما اذا سرق من بيت اذن للناس بالدخول فيه كالحمام والرباط لا يقطع لان القطع يندرىء بالشبهة وكذا لا قطع بسرقة مال سيده لوجود الاذن بالدخول عادة وكذا بسرقة مال زوجته او زوجها ولو من حرز خاص لآخر لا يسكنان فيه لان اليد المبسوطة لكل من الزوجين فى مال الآخر ثابتة وهو مانع عن القطع وكذا لا قطع بسرقة مال من بينهما قرابة ولاء لجريان الانبساط بين الاصول والفروع بالانتفاع فى المال والدخول فى الحرز ولا بسرقة من بيت ذى رحم محرم ولو كان المسروق مال غيره لعدم الحرز ويقطع يمين السارق من زنده وهو مفصل الذراع فى الكف ويحسم بان يدخل فى الدهن الحار بعد القطع لقطع الدم لانه لو لم يحسم لافضى الى التلف والحد زاجر لا متلف ولهذا لا يقطع فى الحر الشديد والبرد الشديد وان سرق ثانيا بعدما قطعت يده اليمنى تقطع رجله اليسرى من المفصل وان سرق ثالثا لا يقطع بل يحبس حتى يتوب ويظهر عليه سيما الصالحين والتائبين لقول على رضى الله عنه فيمن سرق ثلاث مرات انى لاستحيى من الله ان لا ادع له يدا يأكل بها ويستنجى ورجلا يمشى عليها وفى الحديث
"اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله"
.وفيه دليل على ان التوبة يعلم اثرها وتثبت السرقة بما يثبت به شرب الخمر اى بالشهادة او بالاقرار مرة ونصابها رجلان لان شهادة النساء غير مقبولة فى الحدود وطلب المسروق منه شرط القطع لان الخيانة على ملك الغير لا تظهر الا بخصومته ولا فرق فى القطع بين الشريف والوضيع.
وعن عائشة رضى الله عنها قالت
"سرقت امرأة مخزومية فاراد النبى صلى الله عليه وسلم ان يقطع يدها فاستشفع لها اسامة بن زيد وكان النبى عليه الصلاة والسلام يحبه فلم يقبل وقال يا اسامة أتشفع فى حد من حدود الله انما اهلك الذين قبلكم انهم كانوا اذا سرق فيهم الشريف تركوه واذا شرق فيهم الضعيف اقاموا عليه الحد وايم الله لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"
.وفى الحديث نهى عن الشفاعة فى الحدود بعد بلوغ الامام ولهذا رد رسول الله صلى الله عليه وسلم شفاعة اسامة واما قبله فالشفاعة من المجنى عليه جائزة والستر على الذنب مندوب اذا لم يكن صاحب شر واذى: قال السعدى

بس برده بيند عملهاى بد هم او برده بوشد ببالاى خود

وفى الحديث ايضا دلالة على وجوب العدل فى الرعية واجراء الحكم على السوية.
قال الامام ابو منصور فان قيل ما الحكمة فى قطع يد قيمتها الوف بسرقة عشرة دراهم فكيف يكون قطعها جزاء لفعل السارق وقد قال تعالى
{ { ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها } [الأنعام: 160].
قلنا جزاء الدنيا محنة يمتحن بها المرء ولله تعالى ان يمتحن بما شاء ابتداء اى من غير ان يكون ذلك جزاء على كسب العبد ولان القطع ليس بجزاء ما اخذ من المال ولكن لما هتك من الحرمة ألا يرى انه قال جزاء بما كسبا فيجوز ان يبلغ جزاء هتك تلك الحرمة قطع اليد وان قصر على العشرة علم ذلك لان مقادير العقوبات انما يعلمها من يعلم مقادير الجنايات واذا كان الامر كذلك فالحق التسليم والانقياد انتهى. ونعم ما قال يونس بن عبيد فى باب الترهيب لا تأمن من قطع فى خمسة دراهم خير عضو منك ان يكون عذابه هكذا غدا كما فى منهاج العابدين.
فعلى العاقل ان يتوب عن الزلل وينقطع عن الحيل ويتوجه الى الله الاعلى الاجل: وفى المثنوى

حيلهاو جارهاكر ازدهاست بيش الا الله آنها جمله لاست
قفل زفتست وكشانيده خدا دست درتسليم زن اندر رضا

ثم ان الله تعالى انما بدأ بالسارق فى هذه الآية قبل السارقة وفى آية الزنى بدأ بالزانية لان السرقة تفعل بالقوة والرجل اقوى من المرأة والزنى يفعل بالشهوة والمرأة اكثر شهوة والمرأة ادعى من الرجل الى نفسها منه اليها ولهذا لو اجتمع جماعة على امرأة لم يقدروا عليها الا بمرادها ولهذا قيل قال الله تعالى { { وعصى آدم ربه فغوى } [طه: 121].
ولم يقل وعصت حواء مع انها اكلت قبل آدم ودعته الى الاكل وقيل انما قطعت يد السارق لانها باشرت ولم يقطع ذكر الزانى للمباشرة خوفا لقطع النسل وتحصل ايضا لذة الزنى بجميع البدن.
قال النيسابورى قطعت يد السارق لانها اخذت المال الذى هو يد الغنى وعماده كأنه اخذ يد انسان فجزوا يده لتناولها حق الغير وقيل قال الله تعالى
{ { ولله خزائن السموات والارض } [المنافقون: 7].
فكل ما عند العبد من مال فهو خزانة الحق عنده والعبد خازنه فمهما تعدى خزانة مولاه بغير اجازة استحق السياسة بقطع آلة التعدى الى خيانة خزانته وهى اليد المتعدية.
ثم ان السرقة كما تكون من المال كذلك تكون من العبادات وفى الحديث
"اسوء الناس سرقة الذى يسرق من صلاته قالوا يا رسول الله كيف يسرق من صلاته قال لا يتم ركوعها ولا سجودها"
.وفى الحديث "ان الرجل ليصلى ستين سنة وما تقبل له صلاة"
.لعله يتم الركوع ولا يتم السجود ويتم السجود ولا يتم الركوع كذا فى الترغيب والترهيب فمثل هذا المصلى يقطع يمينه عن نيل الوصال فلا يصل الى مراده بل يبقى فى الهجران والقطيعة اذ هو اساء الادب بل قصر فيما امر الرب سبحانه وتعالى.