التفاسير

< >
عرض

يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِٱلْغَيْبِ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٩٤
-المائدة

روح البيان في تفسير القرآن

{ يا أيها الذين ءآمنوا } نزلت عام الحديبية فى السنة السادسة من الهجرة. والحديبية بتخفيف الياء الاخيرة وقد تشدد موضع قريب من مكة اراد عليه السلام زيارة الكعبة فسار مع اصحابه من المدينة وهم الف وخمسمائة واربعون رجلا فنزلوا بالحديبية فابتلاهم الله بالصيد وهم محرومون كانت الوحوش تغشاهم فى رحالهم بحيث كانوا متمكنين من صيدها اخذا بايديهم وطعنا برماحهم فهموا باخذها فانزل الله { يا أيها الذين آمنوا } { ليبلونكم الله } يقال بلوته بلوا جربته واختبرته واللام جواب قسم محذوف اى والله ليعاملنكم معاملة من يختبركم ليتعرف احوالكم { بشىء من الصيد } اى بتحريم شىء حقير هو الصيد بمعنى المصيد كضرب الامير فمن بيانية قطعا والمراد صيد البر مأكولا وغير مأكول ما عدا المستثنيات من الفواسق فاللام للعهد وفى الحديث "خمس فواسق يقتلن فى الحل والحرم الحية والعقرب والغراب والفارة والكلب العقور"
.واراد بالكلب العقور الذئب على ما ورد فى بعض الروايات { تناله ايديكم ورماحكم } اى تصل اليه ايديكم ورماحكم بحيث تأخذون بايديكم وتطعنون برماحكم فالتأكيد القسمى فى ليبلونكم انما هو لتحقيق ما وقع من ان عدم توحش الصيد عنهم ليس الا لابتلائهم لا لتحقيق وقوع المبتلى به كما لو كان النزول قبل الابتلاء وتنكير شىء للتحقير المؤذن بان ذلك ليس من الفتن الهائلة التى تزل فيها اقدام الراسخين كالابتلاء بقتل الانفس واتلاف الاموال وانما هو من قبيل ما ابتلى به اهل ايلة من صيد السمك يوم السبت وفائدته التنبيه على ان من لم يتثبت فى مثل هذا كيف يتثبت عند ما هو اشد منه من المحن { ليعلم الله من يخافه بالغيب } الخوف من الله بمعنى الخوف من عقابه وبالغيب حال من مفعول يخافه وهو عقاب الله اى ليتميز الخائف من عقابه الاخروى وهو غائب مترقب لقوة ايمانه فلا يتعرض للصيد ممن لا يخاف كذلك لضعف ايمانه فيقدم عليه فعلم الله تعالى لما كان مقتضى ذاته وامتنع عليه التجدد والتغير كما امتنع ذلك على ذاته جعل ههنا مجازا عن تميز المعلوم وظهوره على طريق اطلاق السبب على المسبب حيث قال القاضى ذكر العلم واراد وقوع المعلوم وظهوره. وابو السعود انما عبر عن ذلك بعلم الله اللازم له ايذانا بمدار الجزاء ثوابا وعقابا فانه ادخل فى حملهم على الخوف { فمن اعتدى بعد ذلك } اى بعد بيان ان ما وقع ابتلاء من جهته تعالى بما ذكر من الحكمة والمعنى فمن تعرض للصيد بعد ما بينا ان ما وقع من كثرة الصيد وعدم توحشه منهم ابتلاء مؤدّ الى تميز المطيع من العاصى { فله عذاب اليم } لان الاعتداء بعد ذلك مكابرة صريحة وعدم مبالاة بتدبير الله وخروج عن طاعته وانخلاع عن خوفه وخشيته بالكلية والمراد عذاب الآخرة ان مات قبل التوبة والتعزير والكفارة فى الدنيا بنزع ثيابه فيضرب ضربا وجيعا مفرقا فى اعضائه كلها ما خلا الوجه والرأس والفرج ويؤمر بالكفارة.
والاشارة فى الآية ان الله تعالى جعل البلاء للولاء كاللهب للذهب فقال { يا ايها الذين آمنوا } ايمان المحبين الذين تجردوا عن ملاذ الدنيا وشهواتها من الحلال واحرموا بحج الوصول وعمرة الوصال تجردوا عن ملاذ الدنيا وشهواتها من الحلال واحرموا بحج الوصول وعمرة الوصال { ليبلونكم الله } فى اثناء السلوك { بشىء من الصيد } وهو ما سنح من المطالب النفسانية الحيوانية والمقاصد الشهوانية الدنيوية { تناله ايديكم } اى ما يتعلق بشهوات نفوسكم ولذات ابدانكم { ورماحكم } اى ما يتعلق بالمال والجاه { ليعلم الله من يخافه بالغيب } وهو يعلم ويرى اى ليظهر الله ويميز بترك المطالب والمقاصد فى طلب الحق من يخافه بالغيبة والانقطاع عنه ويحترز عن الالتفات لغيره { فمن اعتدى بعد ذلك } اى تعلق بالمطالب بعد الطلب { فله عذاب اليم } من الرد والصد والانقطاع عن الله كذا فى التأويلات النجمية.
قال اوحد المشايخ فى وقته ابو عبد الله الشيرازى قدس سره رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المنام وهو يقول من عرف طريقا الى الله فسلكه ثم رجع عنه عذبه الله بعذاب لم يعذب به احدا من العالمين.
يقول الفقير سمى الذبيح الحقى غفر الله ذنوبه انما كان عذابه اشد لانه رجع عن طريقه بعد معرفته انه الحق الموصل الى الله تعالى وليس من يعلم كمن لا يعلم وسبب الرجوع الامتحانات فى الطريق: قال فى المثنوى

قلب جون آمد سيه شد در زمان زر درآمدشد زرىء اوعيان
دست وبا انداخت زردربوته خش در رخ آتش همى خندد رخش

قال الحافظ

ترسم كزين جمن نبرى آستين كل كز كلشنش تحمل خارى نميكنى

فينبغى للطالب الصادق ان يتحمل مشاق الرياضات ويزكى نفسه عن الشهوات ويحترز عن اكل ما يجده من الحلال فضلا عما حرم الله الملك المتعال فان اصلاح الطبيعة والنفس وان كان بفضل الله وعنايته لكن الصوم وتقليل الطعام من الاسباب القوية فى هذا الباب ـ يحكى ـ ان سالكا خاطب نفسه بعد رياضات شديدة فقال من انت ومن انا فقالت له نفسه انت انت وانا انا فاشتغل بالتزكية ثانيا حتى حج ماشيا مرات فسأل ايضا فاجابت بما اجابت به اولا فاشتغل اشد من الاول وعالجها بتقليل الطعام حتى امات نفسه فسأل من انت فقالت انت انت وانا صرت فانية ولم يبق من وجودى اثر فاستراح بعون الله تعالى.
وسئل حضرة المولوى هل يعصى الصوفى قال لا الا ان يأكل طعاما قبل الاشتهاء فانه سم له وداء اللهم اعنا على اصلاح هذه النفس الامارة.