التفاسير

< >
عرض

جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَٰماً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَٱلْهَدْيَ وَٱلْقَلاَئِدَ ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٩٧
ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٩٨
مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ
٩٩
-المائدة

روح البيان في تفسير القرآن

{ جعل الله الكعبة } اى صيرها وانما سمى البيت كعبة لتكعبه اى لتربعه والعرب تسمى كل بيت مربع كعبة تشبيها له بكعب الرجل الذى عند ملتقى الساق والقدم فى كونه على هيئته فى التربيع. وقيل سميت كعبة لارتفاعها عن الارض واصلها من الخروج والارتفاع وسمى الكعب كعبا لنتوه وخروجه من جانبى القدم ومنه قيل للجارية اذا قاربت البلوغ وخرج ثدياها كاعب والكعبة لما ارتفع ذكرها فى الدنيا واشتهر امرها فى العالم سميت بهذا الاسم ولذلك انهم يقولون لمن عظم قدره وارتفع شأنه فلان علا كعبه.
قال صاحب اسئلة الحكم جعل الله لبيته العتيق اربعة اركان وهى فى الحقيقة ثلاثة اركان لانه شكل مكعب ولذلك سميت بالكعبة تشبيها بالكعب فسرّ كونه على اربعة اركان بالوضع الحادث اشارة الى قلوب المؤمنين لان قلب المؤمن لا يخلو من اربعة خواطر آلهى وملكى ونفسانى وشيطانى فركن الحجر بمنزلة الخاطر الالهى واليمانى بمنزلة الملكى والشامى بمنزلة النفسانى والركن العراقى بمنزلة الشيطانى لان الشرع شرع ان يقال عنده اعوذ بالله من الشقاق والنفاق وبالذكر المشروع تعرف مراتب الاركان.
واما سر كونه مثلث الشكل المكعب فاشارة الى قلوب الانبياء عليهم السلام ليميز الله رسله وانبياءه بالعصمة التى اعطاهم والبسهم اياها فليس لنبى الا ثلاثة خواطر الهى وملكى ونفسى ولغيرهم هذه وزيادة الخاطر الشيطانى فمنهم من ظهر حكمه عليه فى الظاهر وهم عامة الخلق ومنهم من يخطر له ولا يؤثر فى ظاهره وهم المحفوظون من اوليائه بالعصمة الوجوبية للانبياء والحفظ الجوازى للاولياء { البيت الحرام } عطف بيان على جهة المدح دون التوضيح كما تجىء الصفة كذلك وسمى البيت الحرام لان الله تعالى حرمه وعظم حرمته فالحرام بمعنى المحرم وفى الحديث
"ان الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والارض"
.قال بان ملك اعلم ان مكة شرفها الله حرمها ابراهيم عليه السلام لما صح عن النبى عليه الصلاة والسلام انه قال "ان ابراهيم حرم مكة وانى حرمت المدينة"
.وما روى انه عليه السلام قال "ان هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات" فالمراد به كتابته فى اللوح المحفوظ ان ابراهيم سيحرمه انتهى كلامه.
يقول الفقير ان حرمته العرضية وان كانت حادثة لكن حرمته الذاتية قديمة وتلك الكتابة من الحرمة الذاتية عند الحقيقة.
وقد جاء فى بعض التفاسير فى قوله تعالى
{ { ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } [فصلت: 11].
انه لم يجبه بهذه المقالة من الارض الا ارض الحرم فلذلك حرمها فصارت حرمتها كحرمة المؤمن انما حرم دمه وعرضه وماله بطاعته لربه فارض الحرم لما قالت اتينا طائعين حرم صيدها وشجرها وخلاها فلا حرمة الا لذى طاعة وفى الخبر
"لم يأكل الحيتان الكبار صغارها فى ارض الحرم فى الطوفان لحرمتها"
.{ قياما للناس } مفعول ثان للجعل ومعنى كونه قياما لهم انه مدار لقيام امر دينهم ودنياهم. اما الاول فلانه يتوجه اليه الحجاج والعمار فيكون ما فى البيت من المناسك العظيمة والطاعات الشريفة سببا لحط الخطيآت وارتفاع الدرجات ونيل الكرامات. واما الثانى فلانه يجبى الى الحرم ثمرات كل شىء يربح فيه التجار وكانوا يأمنون فيه من النهب والغارة ولا يتعرض لهم احد بسوء فى الحرم حتى ان الرجل اذا اصاب ذنبا فى الجاهلية والاسلام او قتل قتيلا لجأ الى الحرم ويأمن فيه: قال المحيى فى فتوح الحرمين مدحا لحضرة الكعبة

هيج نبى هيج ولى هم نبود كه اونه برين دررخ اميد سود
هادىء ره نيست بجزلطف دوست آمدنت را طلب از نزد اوست
تا نز ند سر ز جمن نو كلى نغمه سرا يى نكند بلبلى

{ والشهر الحرام } اى وجعل الشهر الحرام الذى يؤدى فيه الحج وهو ذو الحجة قياما لهم ايضا فالمفعول الثانى محذوف ثقة بما مر ووجه كون الشهر الحرام سببا لقيام الناس ان العرب كان يتعرض بعضهم لبعض بالقتل والغارة فى سائر الاشهر فاذا دخل الشهر الحرام زال الخوف وقدروا على سفر الحج والتجارات آمنين على انفسهم واموالهم فكان سببا لاكتساب منافع الدين والدنيا ومصالح المعاش والمعاد.
وقد فضل الله الاشهر والايام والاوقات بعضها على بعض كما فضل الرسل والامم بعضها على بعض لتبادر النفوس وتسارع القلوب الى ادراكها واحترامها وتتشوق الارواح الى احيائها بالتعبد فيها ويرغب الخلق فى فضائلها.
قال الامام النيسابورى عشر ذى الحجة افضل الايام واحبها عند الله تعالى بعد شهر رمضان لانها هى التى ناجى فيها كليم الله موسى ربه وفيها احرم جميع الخلق بالحج ووجد آدم التوبة فى ايام العشر واسماعيل الفداء وهود النجاة ونوح الانجاء ومحمد الرسالة واصحابه الرضوان فى البيعة وبشارة خيبر وفتح الحديبية ونزول المغفرة بقوله تعالى
{ { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } [الفتح: 2].
وغير ذلك من الآيات والكرامات وصيام يوم من العشر كصيام الف يوم وقيام ليلة منها كعبادة من حج واعتمر طول سنته فصوم هذا العشر مستحب استحبابا شديدا لا سيما التاسع وهو يوم عرفة لكن يستحب الفطر يوم عرفة للحجاج لئلا يلحقهم فتور عن اداء الطاعات المشروعة فى ذلك اليوم ويؤدوها على الحضور والكمال وفى الحديث
"خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت انا والنبيون لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير"
.{ والهدى } اى وجعل الله الهدى ايضا قياما لهم وهو ما يهدى الى البيت ويذبح هناك ويفرق لحمه بين الفقراء فانه نسك المهدى وقوام لمعيشة الفقراء فكان سببا لقيام امر الدين والدنيا.
يقول الفقير ومنه يعرف ان المقصود من القربان دفع حاجة الفقراء ولذا يستحب للمضحى ان يتصدق باكثر اضحيته بل بكلها

هر كسى از همت والاى خويش سود برد اودرخور كالاى خويش

وللحجاج يوم عيد القربان مناسك الذهاب من منى الى المسجد الحرام فلغيرهم الذهاب الى المصلى موافقة لهم والطواف فلغيرهم صلاة العيد لقوله عليه السلام "الطواف بالبيت صلاة" واقامة السنن من الحلق وقص الاظفار ونحوها فلغيرهم ازالة البدعة واقامة السنة والقربان فلغيرهم ايضا ذلك ولكن ليس كل مال يصلح لخزانة الرب ولا كل قلب يصلح لمعرفة الرب ولا كل نفس تصلح لخدمة الرب: وفى المثنوى

آن تو كل كو خليلان ترا تا نبرد تيغت اسماعيل را
آن كرامت جون كليمت ازكجا تا كنى شهراه قعرنيل را

{ والقلائد } اى وجعل لله القلائد ايضا قياما للناس وهى جمع قلادة وهى ما يقلد به الهدى من نعل او لحاء شجر ليعلم به انه هدى فلا يتعرض له بركوب او حمل والمراد بالقلائد ذوات القلائد وهى البدن وهى الناقة والبقرة مما يجوز فى الهدى والاضاحى وخصت بالذكر لان الثواب فيها اكثر وبهاء الحج بها اظهر ولذا ضحى عمر رضى الله عنه بنجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار لقوله تعالى { { ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } [الحج: 32].
ووجه كون القلائد سببا لقيام الناس ان من قلد هديا لم يتعرض له احد وربما كانوا يقلدون رواحلهم اذا رجعوا من مكة من لحاء شجر الحرم فيأمنون بذلك وكان اهل الجاهلية يأكل الواحد منهم القضيب والشجر من الجوع وهو يرى الهدى والقلائد فلا يتعرض له تعظيما له { ذلك } اشارة الى الجعل منصوب بفعل مقدر اى شرع الله ذلك وبين { لتعلموا ان الله يعلم ما فى السموات وما فى الارض } فان تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار الدينية والدنيوية قبل وقوعها وجلب المنافع الاولوية والاخروية من اوضح الدلائل على حكمة الشارع وعلى عدم خروج شىء من علمه المحيط { وان الله بكل شى عليم } تعميم بعد تخصيص للتأكيد { اعلموا ان الله شديد العقاب } وعيد لمن انتهك محارمه وأصر على ذلك { وان الله غفور رحيم } وعد لمن حافظ على مراعاة حرمانه تعالى او انقطع عن الانتهاك بعد تعاطيه { ما على الرسول الا البلاغ } اى تبليغ الرسالة فى امر الثواب والعقاب وهو تشديد فى ايجاب القيام بما امر به اى الرسول قد اتى بما وجب عليه من التبليغ بما لا مزيد عليه وقامت عليكم الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم من بعد فى التفريط { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } اى ما تظهرون من القول والعمل وما تخفون فيؤاخذكم بذلك نقيراً وقطميرا: قال السعدى قدس سره

بروعلم يك ذره بوشيده نيست كه بنهان وبيدا بنزدش يكيست

والاشارة فى الآية ان الله تعالى كما جعل الكعبة فى الظاهر قياما للعوام والخواص يلوذون به ويستنجحون بالتضرع والابتهال هناك حاجاتهم الدنيوية والاخروية كذلك جعل كعبة القلب فى الباطن قياما للخواص وخواص الخواص ليلوذوا به بطريق دوام الذكر ونفى الخواطر بالكلية واثبات الحق بالربوبية والواحدية بان لا موجود الا هو ولا وجود الا له ولا مطلوب ولا محبوب الا هو وسماه البيت الحرام ليعلم انه بيت الله على الحقيقة وحرام ان يسكن فيه غيره فيراقبه عن ذكر ما سوى الحق وحبه وطلبه الى ان يفتح الله ابواب فضله ورحمته والشهر الحرام هو ايام الطلب والسير الى الله حرام على الطالب فيها مخالطة الخلق وملاحظة ما سوى الحق والهدى هو النفس البهيمية تساق الى كعبة القلب مع القلائد وهى اركان الشريعة فتذبح على عتبة القلب بسكين آداب الطريقة عن شهواتها ولذاتها الحيوانية وفى قوله تعالى { ذلك لتعلموا } الآية اشارة الى ان العبد اذا وصل الى كعبة القلب فيرى بيت الله ويشاهد انوار الجمال والجلال فبتلك الانوار يشاهد ما فى السموات وما فى الارض لانه ينظر بنور الله فيعلم على التحقيق { أن الله يعلم ما فى السموات وما فى الارض وأن الله بكل شىء عليم } { إعلموا ان الله شديد العقاب } يسدل الحجاب لغير الاحباب ممن ركنوا الى الدنيا واغتروا بزينتها وشهواتها { وان الله غفور رحيم } لطالبيه وقاصدى حضرته بفتح الابواب ورفع الحجاب { ما على الرسول الا البلاغ } بالقال والحال { والله يعلم ما تبدون } من الايمان باقدار اللسان وعمل الاركان { وما تكتمون } من تصديق الجنان او التكذيب وصدق التوجه وخلوص النية فى طلب الحق كذا فى التأويلات النجمية.