التفاسير

< >
عرض

قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ
٤

روح البيان في تفسير القرآن

{ قد علمنا ما تنقص الارض منهم } رد لاستبعادهم وازاحة له اى نحن على ذلك فى غاية القدرة فان من عم علمه ولطفه حتى انتهى الى حيث علم ما تنقص الارض من اجساد الموتى وتأكل من لحومهم وعظامهم كيف يستبعد رجعه اياهم احياء كما كانوا عبر بمن لان الارض لا تأكل عجب الذنب فانه كالبذر لاجسام بنى آدم وفى الحديث "كل ابن آدم يبلى الاعجب الذنب فمنه خلق وفيه يركب" والعجب بفتح العين وسكون الجيم اصل الذنب ومؤخر كل شئ وهو ههنا عظم لا جوف له قدر ذرة أو خردلة يبقى من البدن ولا يبلى فاذا أراد الله الاعادة ركب على ذلك العظم سائر البدن واحياه اى غير أبدان الانبياء والصديقين والشهدآء فانها لا تبلى ولا تتفسخ الى يوم القيامة على ما نص به الاخبار الصحيحة قال ابن عطية وحفظ ما تنقص الارض انما هو ليعود بعينه يوم القيامة وهذا هو الحق وذهب بعض الاصوليين الى ان الاجساد المبعوثة يجوز أن تكون غير هذه قال ابن عطية وهذا عندى خلاف لظاهر كتاب الله ولو كانت غيرها فكيف كانت تشهد الجلود والايدى والارجل على الكفرة الى غير ذلك مما يقتضى ان اجساد الدنيا هى التى تعود وسئل شيخ الاسلام ابن حجر هل الاجساد اذا بليت وفنيت وأراد الله تعالى اعادتها كما كانت اولا هل تعود الاجسام الاول ام يخلق الله للناس اجسادا غير الاجساد الاول فأجاب ان الاجساد التى يعيدها الله هى الاجساد الاول لا غيرها قال وهذا هو الصحيح بل الصواب ومن قال غيره عندى فقد اخطأ فيه لمخالفته ظاهر القرءآن والحديث قال اهل الكلام ان الله تعالى يجمع الاجزآء الاصلية التى صار الانسان معها حال التولد وهى العناصر الاربعة ويعيد روحه اليه سوآء سمى ذلك الجمع اعادة المعدوم بعينه او لم يسم فان قيل البدن الثانى ليس هو الاول لما ورد فى الحديث من ان اهل الجنة جردمرد وان الجهنمى ضرسه مثل أحد فيلزم التناسخ وهو تعلق روح الانسان ببدن انسان آخر وهو باطل قلنا انما يلزم التناسخ ان لو لم يكن البدن الثانى مخلوقا من الاجزآء الاصلية للبدن الاول يقول الفقير البدن معاد على الاجزآء الاصلية وعلى بعض الفضلة ايضا وهو العجب المذكور فكانه البدن الاول فلا يلزم التناسخ جدا والتغاير فى الوصف لا يوجب التغاير فى الذات فقد ثبت ان الخضر عليه السلام يصير شابا على كل مائة سنة وعشرين سنة مع ان البدن هو البدن الاول وكذا قال ابن عباس رضى الله عنهما ان ابليس اذا مرت عليه الدهور وحصل له الهرم عاد ابن ثلاثين سنة واختلف القائلون بحشر الاجسام فمنهم من ذهب الى ان الاعادة تكون فى الناس مثل ما بداهم بنكاح وتناسل وابتدآء بخلق من طين ونفخ كما جرى من خلق آدم وحوآء وخلق البنين من نسل ونكاح الى آخر مولود فى العالم البشرى كل ذلك فى مدة قصيرة على حسب ما يقدره الحق تعالى واليه ذهب الشيخ ابو القاسم بن قسى فى كتاب خلع النعلين له فى قوله تعالى { كما بدأكم تعودون } ومنهم من قال وهو القول الاصح بالخبر المروى ان السماء تمطر مطرا شبه المنى فينشأ منه النشأة الآخرة كما أن النشأة الدنيا من نقطة تنزل من بحر الحياة الى اصلاب الآباء ومنها الى ارحام الامهات فيتكون من قطر بحر الحياة تلك النقطة جسد فى الرحم وقد علمنا ان النشأة الاول اوجدها الله تعالى على غير مثال سبق وركبها فى اى صورة شاء وهكذا النشأة الآخرة يوجدها الحق على غير مثال سبق مع كونها محسوسة بلا شك فينشئ الله النشأة الآخرة على عجب ألذنب الذى يبقى من هذه النشأة الدنيا وهو اصلها فعليه تتركب النشأة الآخرة فقوله تعالى { كما بدأكم تعودون } راجع الى عدم مثال سابق كما فى النشأة الاولى مع كونها محسوسة بلا شك اذ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفة نشأة اهل الجنة والنار ما يخالف هذه النشأ الدنيا وقوله وهو أهون عليه لا يقدح فيما قلنا لان البدء ان كان عن اختراع فكر وتدبير كانت اعادته الى أن يخلق خلقا آخر مما يقارب ذلك ويزيد عليه اقرب الى الاختراع فى حق من يستفيد الامور بفكرة والله متعال عن ذلك علوا كبيرا فهو الذى يفيد العالم ولا يستفيد ولا يتجدد له علم بشئ بل هو عالم بتفاصيل مالا يتناهى بعلم كلى فعلم التفصيل فى عين الاجمال وهكذا ينبغى لجلاله ان يكون قال ابو حامد الغزالىرحمه الله ان العجب المذكور فى الخبر والنفس وعليها ينشأ النشأة الآخرة اى كما يتكون شجر كثير الاصول والاغصان من الحبة الصغيرة فى الطين كذلك جسد الانسان من حبة العجب الذى لا يقبل البلى فعبر عنه الامام بالنفس لانه مادتها وعنصرها هكذا اوله البعض وقال غيره مثل ابى يزيد الرقراقى المراد من العجب جوهر فرد وجزء واحد لا يقبل القسمة والبلى فيه قوة القابلية الهيولانية بل هو صورة هيولى النفس الحيوانية الحاملة لا جزآء العناصر التى فى الهيكل المحسوس فيبقيه الخالق ويعصمه من التغير والبلى فى عالم الكون والفساد بل خلقه من اول خلق النشأة الدنيوية الى الابدان الجنانية وعليه مدار الهيكل يبقى من هذه النشأة الدنيا لا يتغير وعليه ينشأ النشأة الآخرة وكل ذلك محتمل لا يقدح فى شئ من الاصول الشرعية فى الاحكام الاخروية وتوجيهات معقولة يحتمل أن يكون كل منها مقصود الشارع بقوله عجب الذنب وقال حضرة الشيخ الاكبر قدس سره الاطهر والذى وقع لى به الكشف الذى لا أشك فيه ان المراد بعجب الذنب هو ما يقوم عليه النشأة وهو لا يبلى اى لا يقبل البلى والفناء فان الجواهر والذوات الخارجة الى الوجود من العدم لا تنعدم اعيانها ولكن تختلف عليها الصور الشهادية والبرزخية بالامتزاجات التى هى اعراض تعرض لها بتقدير العزيز العليم فاذا تهيأت هذه الصور بالاستعداد لقبول الارواح كاستعداد الحشيش بالنارية التى هى فيه لقبول الاشتعال والصور البرزخية كالسرج مشتعلة بالارواح التى فيها فينفخ اسرافيل نفخة واحدة فتمر تلك النفخة على تلك الصور البرزخية فتطفئها وتمر النفخة التى تليها وهى الاخرى الى الصور المستعدة للاشتعال وهى النشأة الاخرى فتشعل بارواحها فاذا هم قيام ينظرون نسأل الله تعالى أن يبعثنا امنين بجاه النبى الامين { وعندنا كتاب حفيظ } بالغ فى الحفظ لتفاصيل الاشياء كلها او محفوظا من التغير والمراد اما تمثيل علمه تعالى بكليات الاشياء وجزئياتها يعلم من عنده كتاب محيط يتلقى منه كل شئ او تأكيد لعلمه بها بثبوتها فى اللوح المحفوظ عنده