التفاسير

< >
عرض

لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ
١٨
-النجم

روح البيان في تفسير القرآن

{ لقد رأى من آيات ربه الكبرى } اى وبالله لقد رأى محمد عليه السلام ليلة المعراج الآيات التى هى كبراها وعظماها فأرى من عجائب الملك والملكوت مالا يحيط به نطاق العبارة فقوله { من آيات ربه } حال قدمت على ذيها وكلمة من للبيان لانه المناسب لمرام المقام وهو التعظيم والمبالغة ولذا لم تحمل على التبعيض على ان يكون هو المفعول ويجوز ان يكون الكبرى صفة للآيات والمفعول محذوف اى شيأ عظيما من آيات ربه وان يكون من مزيدة يعنى على مذهب الاخفش وكان الاسرآء ليلة السابع والعشررين من رجب على ما عليه الاكثر فى السنة الثانية عشرة من النبوة قبل الهجرة بقليل كما فى تفسير المناسبات وفيه اشكال فان هذه السورة نزلت فى السنة الخامسة من النبوة على مامر فى اول السورة قال ألمفسرون رأى عليه السلام اى ابصر تلك الليلة رفرفا اخضر سد افق السماء فجلس عليه السلام وجاوز سدرة المنتهى والرفرف البساط وهو صورة همته البسيطة العريضة المحيطة بالآفاق مطلقا لانه عليه السلام فى سفر العالم البسيط ولا يصل اليه الا من له علو الهمة مثله وقد قال حسان رضى الله عنه فى نعته عليه السلام

له همم لامنتهى لكبارها وهمته الصغرى اجل من الدهر

ورأى تلك الليلة طوآئف الملائكة وسدرة المنتهى وجنة المأوى وما فى الجنان لاهل الايمان وما فى النيران لاهل الطغيان والظلم والانوار ومايعجز عنه الافكار وتحار فيه الابصار ومن ذلك مارأه فى السموات من الانبياء عليهم السلام اشارة بكل نبى الى امر دقيق جليل وحالة شريفة قال الامام ابو القاسم السهيلىرحمه الله فى الروض الانف والذى اقول فى هذا ان ماخذ فهمه من علم التعبير فانه من علم النبوة واهل التعبير يقولون من رأى نبيا بعينه فى المنام فان رؤياه تؤذن بما يشبه من حال ذلك النبى فى شدة او رخاء او غير ذلك من الامور التى اخبر بها عن الانبياء فى القرءآن والحديث مثلا من رأى آدم عليه السلام فى مكان على حسنه وجماله وكان للولاية اهلا ملك ملكا عظيما لقوله تعالى { انى جاعل فى الارض خليفة } ومن رأى نوحا عليه السلام فانه يعيش عيشا طويلا ويصيبه شدة واذى من الناس ثم يظفر بهم ومن رأى ابراهيم عليه السلام فانه يعق اباه ويرزق الحج وينصر على اعدآئه ويناله هول وشدة من ملك جائر ثم ينصر ومن رأى يوسف عليه السلام فانه يكذب عليه ويظلم ويناله شدة ويحبس ثم يملك ملكا ويظفر و من رأى موسى وهرون عليهما السلام فان الله يهلك على يده جبارا عنيدا ومن رأى سليمان عليه السلام فانه يلى القضاء او الملك او يرزق الفقه ومن رأى عيسى عليه السلام فانه يكون رجلا مباركا نفاعا كثير الخير كثير السفر فى رضى الله ومن رأى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وليس فى رؤياه مكروه لم يزل خفيف الحال وان رأه فى ارض جدب اخصبت او فى ارض قوم مظلومين نصروا ومن رأه عليه السلام فان كان مغموما ذهب غمه وان كان مديونا قضى الله دينه وان كان مغلوبا نصر وان كان محبوسا اطلق وان كان عبدا اعتق وان كان غائبا رجع الى اهله سالما وان كان معسرا اغناه الله وان كان مريضا شفاه الله تعالى وحديث الاسرآء كان بمكة ومكة حرم الله وامنه وقطانها جيران الله لان فيها بيته فأول من رأه عليه السلام من الانبياء كان آدم عليه السلام الذى كان فى امن الله وجواره فأخرجه ابليس عدوه منها وهذه القصة تشبهها الحالة الاولى من احوال النبى عليه السلام حين اخرجه اعدآؤه من حرم الله وجوار بيته وكربه ذلك وغمه فأشبهت قصته فى هذه قصة آدم مع ان آدم تعرض عليه ارواح ذريته البر والفاجر منهم فكان فى السماء الدنيا بحيث يرى الفريقين لان ارواح اهل الشقاء لاتلج فى السماء ولا تفتح لهم ابوابها ثم رأى فى الثانية عيسى ويحيى عليهما السلام وهما الممتحنان باليهود اما عيسى عليه السلام فكذبته اليهود وآذته وهموا بقتله فرفعه الله واما يحيى عليه السلام فقتلوه ورسول الله عليه السلام بعد انتقاله الى المدينة صار الى حالة ثانية من الامتحان وكانت محنته فيها باليهود آذوه وظاهروا عليه وهموا بالقاء الصخرة عليه ليقتلوه فنجاه الله كما نجى عيسى منهم ثم سموه فى الشاة فلم تزل تلك الاكلة تعاوده حتى قطعت ابهره كما قال عند الموت (وفى المثنوى)

جون سفيها نراست اين كارويكا لازم آمد يقتلون الانبيا

ومما يؤثر عن سعيد بن المسيبرحمه الله الدنيا بذلة تميل الى الابذال ومن استغنى بالله افتقر اليه الناس واما لقاؤه ليوسف عليه السلام فى السماء الثالثة فانه يؤذن بحالة ثالثة تشبه حالة يوسف عليه السلام وذلك ان يوسف ظفر بأخوته بعدما أخرجوه من بين ظهرانيهم فصفح عنهم وقال { لاتثريب عليكم اليوم } الآية وكذلك نبينا عليه السلام اسر يوم بدر جملة من اقاربه الذين اخرجوه فيهم عمه العباس وابن عمه عقيل فمنهم من اطلق ومنهم من فداه ثم ظهر علهيم بعد ذلك عام الفتح فجمعهم فقال لهما "اقول ماقال اخى يوسف لاتثريب عليكم" ثم لقاؤه لادريس عليه السلام فى السماء الرابعة وهو المكان الذى سماء الله مكانا عليا وادريس اول من آتاه الله الخط بالقلم فكان ذلك مؤذنا بحالة رابعة وهو علو شأنه عليه السلام حتى اخاف الملوك وكتب اليهم يدعوهم الى طاعته حتى قال ابو سفيان وهو عند ملك الروم حين جاءه كتاب النبى عليه السلام ورأى مارأى من خوف هرقل كسبحل وزبرج لقد امر امر ابن ابى كبشة حين اصبح يخافه ملك ابن ابى الاصفر وكتب عليه بالقلم الى جميع ملوك الارض فمنهم من اتبعه على دينه كالنجاشى بالتخفيف وملك عمان ومنهم من هادنه واهدى اليه واتحفه كهرقل المقوقس سلطان مصر ومنهم من تعصى عليه فأظفره الله به فهذا مقام على وخط بالقلم جلى نحوما اوتى ادريس ولقاؤه فى السماء السادسة لموسى عليه السلام يؤذن بحالة تشبه حالة موسى حين امر بغزوة الشام وظهر على الجبابرة الذين كانوا فيها وادخل بنى اسرائيل البلد الذى خرجوا منه بعد اهلاك عدوهم وكذلك غزا رسول الله عليه السلام تبوك من ارض الشام وظهر على صاحب دومة الجندل حتى صالحه على الجزية بعد ان أتى به اسيرا وافتتح مكة وادخل اصحابه البلد الذى خرجوا منه ثم لقاؤه فى السماء السابعة لابراهيم عليه السلام لحكمتين احداهما انه رأه عند البيت المعمور مسند اظهره اليه والبيت المعمور حيال الكعبة اى بازآئها ومقابلتها واليه تحج الملائكة كما ان ابراهيم هو الذى بنى الكعبة واذن فى الناس بالحج اليها والحكمة الثانية ان آخر احوال النبى عليه السلام حجه الى البيت الحرام وحج معه ذلك العام نحو من سبعين الفا من المسلمين ورؤية ابراهيم عليه السلام عنداهل التأويل تؤذن بالحج لانه الداعى اليه والرافع لقواعد الكعبة المحجوجة قال الامام ان هذه الآية تدل على ان محمدا عليه السلام لم ير الله ليلة المعراج وانما رأى آيات الله وفيه خلاف ووجه الدلالة انه ختم قصة المعراج ههنا برؤية الآيات وقال فى موضع آخر سبحان الذى اسرى بعبده ليلا الى أن قال لنريه من آياتنا ولو كان رأه لكان ذلك اعظم مايمكن من الكرامة فكان حقه أن يختم به قصة المعراج انتهى.يقول الفقير رؤية الآيات مشتملة على رؤية الله تعالى كما قال الشيخ الكبير رضى الله عنه فى الفكوك انما تتعذر الرؤية والادراك باعتبار تجرد الذات عن المظاهر والنسب والاضافات فاما فى المظاهر ومن ورآء حجابية المراتب فالادراك ممكن كما قيل

كالشمس تمنعك اجتلاءك وجهها فاذا اكتست برقيق غيم امكنا

انتهى واما اشتمال ارآءة الآيات على ارآءة الله تعالى فلما كانت تلك الآيات الملكوتية فوق الآيات الملكية اشهده تعالى فى تلك المشاهد ليكمل له الرؤية فى جميع المراتب والمشاهد ومن المحال أن يدعو كريم كريما الى داره ويضيف حبيب حبيبا فى قصره ثم يتستر عنه ولايريه وجهه
وفى التأويلات النجمية يشير الى ان لله تعالى آيات كبرى وصغرى اما الآيات الكبرى فهى الصفات القديمة الازلية المسماة عند القوم بالائمة السبعة كالحياة والعلم والقدرة والارادة والسمع والبصر والكلام والآيات الصغرى هى الاسماء الالهية التى قال الله تعالى
{ ولله الاسماء الحسنى } وانما سميت الاولى بالكبرى والثانية بالصغرى لان الصفات مصادر الاسماء ومراجعها كما ان الحى يرجع فى الوجود الى الحياة والعليم الى العلم والقادر الى القدرة ولان الاسماء مظاهر الصفات كما ان الحى يرجع فى الوجود الى الافعال والافعال مظاهر الاسماء والآثار مظاهر الافعال واما التخصيص بالكبرى دون الصغرى وان كانت من آيات الله كما قال تعالى { قل ادعوا الله او ادعوا الرحمن اياما تدعوا فله الاسماء الحسنى } لان شهود الآيات الكبرى يستلزم شهود الآيات الصغرى لان الله تعالى اذا تجلى لعبده بصفة الحياة والعلم والقدرة لابد للعبد أن يصير حيا بحياته عليما بعلمه قديرا بقدرته تلخيص المعنى ان النبى صلى الله عليه وسلم لما عرج به الى سماء الجمعية الوحدانية وادرج فى نور الفردانية تجلى الحق سبحانه اولا بصورة هذه الصفات الكبرى التى هى مفاتيح الغيب لايعلمها الا هو بحيث صارت حياته مادة حياة العالم كله علويه وسفليه وروحانيه وجمسانيه معدنيه ونباتيه وحيوانيه وانسانيه كما قال { وما أرسلناك الا رحمة للعالمين } وقال لولاك لما خلقت الافلاك وقال عليه السلام "انا من الله والمؤمنون منى" وكذا صار علمه محيطا بجميع المعلومات الغيبية المكوتية كما جاء فى حديث اختصام الملائكة انه قال فوضع كفه على كتفه فوجدت بردها بين يديى فعلمت علم الاولين والآخرين وفى رواية علم ما كان وما سيكون وكذا قدرته كسر بها اعناق الجبابرة وضرب بالسيف رقاب الاكاسرة وخرب حيطانهم وحصونهم فما بقين ولا بقوا وببركة هذا التجلى الجمعى الكلى والاحاطى صار آدم بتبعيته وخلافته خليفة العالم كما اخبر فى كتابه العزيز { انى جاعل فى الارض خليفة } واسجد الله الملائكة لتلألؤ نوره الوحدانى فى وجه آدم هذا تحقيق قوله { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } اللام جواب القسم ومن مزيدة انتهى. وقال البقلىرحمه الله أراه سبحانه من آياته العظام مالا يقوم برؤيتها احد سواه اى المصطفى عليه السلام وذلك بأن البسه قوة الجبارية الملكوتية كما قال { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } وذلك ببروز انوار الصفات فى الآيات وتلك الآيات لو رأها احد لاستغرق فى رؤيتها فكان من كمال استغراقه فى بحر الذات الصفات لم يكبر عليه رؤية الآيات قال ابن عطاء رأى الآيات فلم تكبر فى عينه لكبر همته وعلو محله ولاتصاله بالكبير المتعال قال جعفر شاهد من علامات المحبة ما كبر عن الاخبار عنها