التفاسير

< >
عرض

ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ
٦
-النجم

روح البيان في تفسير القرآن

{ ذو مرة } اى حصافة يعنى استحكام فى عقله ورأيه ومتانة فى دينه قال الراغب امررت الحبل اذا فتلته والمرير والممر المفتول ومنه فلان ذو مرة كأنه محكم الفتل وفى القاموس المرة بالكسر قوة الخلق وشدة والجمع مرر وامرار والعقل والاصالة والاحكام والقوة وطاقة الحبل كالمريرة وذو مرة جبريل عليه السلام والمريرة الحبل الشديد الفتل { فاستوى } عطف على علمه بطريق التفسير فانه الى قوله { مااوحى } بيان لكيفية التعليم اى فاستقام جبريل واستقر على صورته التى خلقه الله عليها وله ستمائة جناح موشحا اى مزينا بالجواهر دون الصورة التى كان يتمثل بها كلما هبط بالوحى كصورة دحية امير العرب وكما اتى ابراهيم عليه السلام فى صورة الضيف وداود عليه السلام فى صورة الخصم وذلك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم احب أن يراه فى صورته التى جبل عليها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبل حرآء وهو الجبل المسمى بجبل النور فى قرب مكة فقال ان الارض لاتسعنى لكن انظر الى السماء فطلع جبريل من المشرق فسد الارض من المغرب وملأ الافق فخر رسول الله كما خر موسى فى جبل الطور فنزل جبريل فى صورة الآدميين فضمه الى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه وذلك فان الجسد وهو فى الدنيا لايتحمل رؤية ماهو خارج عن طور العقل فمنها رؤية الملك على صورة جبل عليها واعظم منها رؤية الله تعالى فى هذه الدار قيل مارآه احد من الانبياء فى صورته غير نبينا عليه السلام فانه رآه فيها مرتين مرة فى الارض ومرة فى السماء ليلة المعراج عند سدرة المنتهى لما سيأتى (وروى) ان حمزة بن عبدالمطلب رضى الله عنه قال يارسول الله أرنى جبرآئيل فى صورته فقال انك لا تستطيع أن تنظر اليه قال بلى يارسول الله أرينه فقعد ونزل جبرآئيل فى صورته على خشبة فى الكعبة كان المشركون يضعون ثيابهم عليها اذا طافوا فقال عليه السلام ارفع طرفك ياحمزة فانظر فرفع عينيه فاذا قدماه كالزبرجد الاخضر فخر مغشيا عليه (وروى) انه رآه على فرس والدنيا بين كلكلها وفى وجهه اخدود من البكاء لو ألقيت السفن فيه لجرت انما رآه عليه السلام مرتين ليكمل له الامر مرة فى عالم الكون والفساد واخرى فى المحل الأنزه الأعلى وانما قام بصورة ليؤكدان مايأتيه فى صورة دحية هو هو فانه اذا رآه فى صورة نفسه عرفه حق معرفته ولم يبق عليه اشتباه بوجه ماوفى كشف الاسرار فان قيل كيف يجوز أن يغير الملك صورة نفسه وهل يقدر غير الله على تغيير صورة المخلوقين وقد قلتم ان جبرآئيل أتى رسول الله مرة فى صورة رجل ومرة فى صورته التى ابتدأه الله عليها وان ابليس أتى قريشا فى صورة شيخ من اهل نجد فالجواب عنه تغيير الصور الذى هو تغيير التركيب والتأليف لايقدر عليه الا الله واما صفة جبرآئيل ففعل الله تعالى تنبيها للمصطفى عليه السلام وليعلم انه امر من الله اذرآه فى صور مختلفة فان ذلك لايقدر عليه الا الله وهو ان يراه مرة قد سد الافق واخرى يجمعه مكان ضيق واما ابليس فكان ذلك منه تخييلا للناظرين وتمويها دون التحقيق كفعل السحرة بالعصى والحبال قال الله تعالى { فاذا حبالهم وعصيهم يخيل اليه من سحرهم انها تسعى } انتهى مافى الكشف وقال فى آكام المرجان قال القاضى ابو يعلى ولا قدره للشياطين على تغيير خلقهم والانتقال فى الصور اى صور الانس والبهائم والطير وانما يجوز ان يعلمهم الله تعالى كلمات وضربا من ضروب الافعال اذا فعله وتكلم به نقله الله من صورة الى صورة فيقال انه قادر على التصور والتخييل على معنى انه قادر على قول اذا قاله او على فعل اذا فعله نقله الله من صورته الى صورة اخرى بجرى العادة واما يصور نفسه فذلك محال لان انتقالها من صورة الى صورة انما يكون بنقض البنية وتفريق الاجزآء واذا انتقضت بطل الحياة واستحال وقوع الفعل من الجملة فكيف ينقل نفسه قال والقول فى تشكيل الملائكة من ذلك انتهى وقال والهى الاسكوبى فيه ان من قال تمثل جبريل وتصور ابليس ليس مراده انهما احدثا تلك الصورة والمثال عن قدرة انفسهما بل باقدار الله على التمثيل والتصوير كيف يشاء فلا منافاة بين القولين غاية مافى الباب ان العامل عن طريق اقدار الله به من الاسباب المخصوصة انتهى وقال فى انسان العيون فان قيل اذا جاء جبريل على صورة الآدمى دحية اوغيره بل هيى الروح تتشكل بذلك الشكل وعليه على يصير جسده الاصلى حيا من غير روح او ميتا اجيب بأن الجائى يجوز أن لايكون هو الروح بل الجسد لانه يجوز ان الله تعالى جعل فى الملائكة قدرة على التطور والتشكل بأى شكل أرادوه كالجن فيكون الجسد واحدا ومن ثمة قال الحافظ ابن حجر ان تتمثل الملك رجلا ليس معناه ان ذاته انقلبت رجلا بل معناه انه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه والظاهر ان القدر الزآئد لايزول ولا يفنى بل يخفى على الرآئى فقط واخذ من ذلك بعض غلاة الشيعة انه لامانع ولا بعد ان الحق تعالى يظهر فى صورة على واولاده الاثنى عشر رضى الله عنهم ويجوز ان يكون الجسد للملك متعددا وعليه فمن الممكن ان يجعل الله لروح الملك قوة يقتدر بها على التصرف فى جسد آخر غير جسدها المعهود مع تصرفها فى ذلك الجسد المعهود كما هو شأن الابدال لانهم يرحلون الى مكان ويقيمون فى مكانهم شبحا آخر شبيها لشبحهم الاصلى بدلا منه وقد ذكر ابن السبكى فى الطبقات ان كرامات الاولياء انواع وعد منها ان يكون له اجساد متعددة قال وهذا هو الذى يسميه الصوفية بعالم المثال ومنه قصة قضيب البان وغيره اى كواقعة الشيخ عبدالقادر الطبحطوطى فقد ذكر الجلال السيوطى انه رفع اليه سؤال فى رجل حلف بالطلاق ان ولى الله الشيخ عبدالقادر الطبحطوطى بات عنده ليلة كذا فحلف آخر بالطلاق انه بات عنده تلك الليلة بعينها فهل يقع الطلاق على احدهما فأرسلت قاصدى الى الشيخ عبدالقادر فسأله عن ذلك فقال لوقال اربعون انى بت عندهم لصدقوا فأفتيت بأنه لاحنث على واحد منهما لان تعدد الصور بالتخيل والتشكل ممكن كما يقع ذلك للجان قال الشعرانى واخبرنى من صحب الشيخ محمد الخضرى انه خطب فى خمسين بلدة فى يوم واحد خطبة الجمعة وصلى بهم اماما واما الشيخ حسين ابو على المدفون بمصر المحروسة فأخبرنى عنه اصحابه ان التطور كان دأبه ليلا ونهارا حتى فى صور السباع والبهائم ودخل عليه بعض اعدآئه ليقلتوه فوجدوه فقطعوه بالسيوف ليلا ورموه على كوم بعيد ثم اصبحوا فوجدوه قائما يصلى وفى جواهر الشعرانى وصورة التطور ان يقدر الله الروح على تدبير ماشاءت من الاجسام المتعددة بخلعة كن فللاولياء ذلك فى الدنيا بحكم خرق العادة اما فى الآخرة فان نفس نشأة اهل الجنة تعطى ذلك فيدبر الواحد الاجسام المتعددة كما يدبر الروح الواحد سائر اعضاء البدن فتكون تسمع وأنت تبصر وتبطش وتمشى ونحو ذلك وفى الفتوحات المكية والذى اعطاه الكشف الصحيح ان اجسام اهل الجنة تنطوى فى ارواحهم فتكون الارواح ظروفا للاجسام عكس ماكانت فى الدنيا فيكون الظهور والحكم فى الدار الآخرة للجسم لا للروح ولهذا يتحولون فى اى صورة شاؤا كما هو اليوم عندنا للملائكة وعالم الارواح انتهى وفى انسان العيون عالم المثال عالم متوسط بين عالم الاجساد والارواح الطف من عالم الاجساد واكشف من عالم الارواح فالارواح تتجسد وتظهر فى صور مختلفة من عالم المثال وهذا الجواب اولى من جواب ابن حجر بأن جبرآئيل كان يندمج بعضه فى بعض وهل مجيىء جبرآئيل فى صورة دحية كان فى المدينة بعد اسلام دحية واسلامه كان بعد بدر فانه لم يشهدها وشهد المشاهد بعدها اذ يبعد مجيئة على صورة دحية قبل اسلامه قال الشيخ الاكبر رضى الله عنه دحية الكلبى كان اجمل اهل زمانه واحسنهم صورة فكان الغرض من نزول جبريل على سيدنا محمد فى صورته اعلاما من الله تعالى انه مابينى وبينك يا محمد سفير الا صورة الحسن والجمال وهى التى عندى فيكون ذلك بشرى له عليه السلام ولاسيما اذا اتى بأمر الوعيد والزجر فتكون تلك الصورة الجميلة تسكن منه مايحرك ذلك الوعيد والزجر هذا كلامه وهو واضح لو كان لا يأتيه الا على تلك الصورة الا ان يدعى انه من حين اتاه على صورة دحية لم يأته على صورة آدمى غيره بقى هنا كلام وهو ان السهيلىرحمه الله ذكر ان المراد بالاجنحة فى حق الملائكة صفة ملكية وقوة روحانية وليست كأجنحة الطير ولا ينافى ذلك وصف كل جناح منها بأنه يسد مابين المشرق والمغرب انتهى.
يقول الفقير هذا كلام عقلى ولامنع من ان يجمع الملك بين قوة روحانية وبين جناح يليق بعالمه سوآء كان ذلك كجناح الطير او غيره فان المعقولات مع المحسوسات تدور والجمع انسب بالحكمة والصق بالقدرة وقد اسلفنا مثل هذا فى اوآئل سورة الملائكة فلا كلام فيه عند اولى الالباب وانما يقتضى المقام ان يبين وجه كون جناح جبريل ستمائة لاازيد ولا انقص ولم اظفر ببيانه لافى كلام اهل الرسوم ولا فى اشارات اهل الحقائق والذى يدور بالبال من الله تعالى لاتعملا وتأملا ان النبى عليه السلام انما عرج ليلة الاسرآء بالفناء التام ولذا وقع الاسرآء فى الليل الذى هو مظهر الفناء دون النهار الذى هو مظهر البقاء وكان مراتب الفناء سبعا على مراتب الاسماء السبعة التى آخرها القيوم القهار وللاشارة الى هذه جعلت منارات الحرم المكى سبعا لان سر البقاء انما ظهر فى حرم النبى عليه السلام ولذا جعلت مناراته خمسا على عدد مراتب البقاء التى اشير اليها بالاسماء الخمسة الباقية من الاثنى عشر التى آخرها الاحد الصمد وكل واحد من تلك الاسماء السبعة مائة على حسب تفصيلها الى الاسماء الحسنى مع احدية جمعها فيكون مجموعها بهذا الحسب سبعمائة ولما كان جبريل دون النبى عليه السلام فى الفناء لم يتجاوز تلك الليلة مقامه الذى هو سدرة المنتهى حتى قال لو دنوت انملة لاحترقت وتجاوزه النبى عليه السلام الى مستوى العرش وقهره غلب عليه فى ذلك فانتهى سير جبريل الى الاسم القيوم فصار مقهورا تحت سير النبى عليه السلام وقائما فى مكانه وقائما بوحيه للقلوب ولذا سمى بروح القدس لحياة القلوب بوحيه كحياة الاجساد بالارواح فله من تلك الاجنحة السبعمائة ستمائة صورة ومعنى وانتهى سير النبى عليه السلام الى الاسم القهار فصار ماحصر الكل من دونه فله سبعمائة جناح معنوية فظهر ان القوة النبوية ازيد من القوة الملكية لانها القوة الالهية وقد قال تعالى
{ يد الله فوق ايديهم } وان جبريل لكونه من الايدى انما يستفيد اليد والقوة من يد النبى عليه السلام وقوته فاعرف ذلك وكن من الموقنين