التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
٢٧
-الحديد

روح البيان في تفسير القرآن

{ ثم قفينا على آثارهم برسلنا } اى ثم أرسلنا بعدهم رسلنا والضمير لنوح وابرهيم ومن أرسلا اليهم من الامم يعنى بعد ازنوح وهود وصالح را وبعد از ابراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب ويوسف را، او من عاصرهما من الرسل ولا يعود الى الذرية فان الرسل المقفى بهم من الذرية يقال قفا أثره اتبعه وقفى على أثره بفلان اى اتبعه اياه وجاء به بعده والآثار جمع اثر بالكسر تقول خرجت على اثره اى عقبه فالمعنى اتبعنا من بعدهم واحدا بعد واحد من الرسل قال الحريرى فى درة الغواص يقال شفعت الرسول بآخر اى جعلتهما اثنين فاذا بعثت بالثالث فوجه الكلام أن يقال عززت بثالث اى قويت كما تعالى { فعززنا بثالث } فان واترت الرسل فالاحسن أن يقال قفيت بالرسل كما قال تعالى { ثم قفينا على آثارهم برسلنا } { وقفينا بعيسى ابن مريم } اى أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى الى عيسى بن مريم فأتينا به بعدهم يعنى وازبى در آورديم اين رسل رواتمام كرديم انبياء بنى اسرآئيل را بعيسى ابن مري، فأول انبياء بنى اسرآئيل موسى وآخرهم عيسى { وآتيناه الانجيل } دفعة واحدة { وجعلنا فى قلوب } المؤمنين { الذين اتبعوه } اى عيسى فى دينه كالحواريين واتباعهم { رأفة } وهى اللين { ورحمة } وهى الشفقة اى وقفينا رأفة اى اشد رقة على من كان يتسبب الى الاتصال بهم ورحمة اى رقة وعطفا على من لم يكن له سبب فى الصلة بهم كما كان الصحابة رضى الله عنهم رحماء بينهم حتى كانوا اذلة على المؤمنين مع ان قولبهم فى غاية الصلابة فهم اعزة على الكافرين قيل امروا فى الانجيل بالصفح والاعراض عن مكافأة الناس على الاذى

بدى را بدى سهل باشد حزا اكر مردى احسن الى من اسا

وقيل لهم من لطم خدك الأيمن فوله خدك الأيسر ومن سلب ردآءك فأعطه قميصك ولم يكن لهم قصاص على جناية فى نفس او طرف فاتبعوا هذه الا وامر واطاعوا الله وكانوا متوادين ومتراحمين ووصفوا بالرحمة خلاف اليهود الذين وصفوا بالقسوة { ورهبانية } منصوب اما بفعل مضمر يفسره الظاهر اى وابتدعوا اى اتباع عيسى رهبانية { ابتدعوها } اى حملوا انفسهم على العمل بها واما بالعطف على ما قبلها وابتدعوها صفة لها اى وجعلنا فى قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عندهم اى وقفيناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها قال فى فتح الرحمن المعتزلة تعرب رهبانية على انها نصب باضمار فعل يفسره ابتدعوها وليست بمعطوفة على رأفة ورحمة ويذهبون فى ذلك الى ان الانسان يخلق افعاله فيعربون الآية على مذهبهم انتهى والرهبانية المبالغة فى العبادة بمواصلة الصوم ولبس المسموح وترك اكل اللحم والامتناع عن المطعم والمشرب والملبس والنكاح والتعبد فى الغير ان ومعناها العفلة المنسوبة الى الرهبان بالفتح وهو الخائف فان الرهبة مخالفة مع تحزن واضطرب كما فى المفردات فعلان من رهب كخشيان من خشى وقرىء بضم الرآء كانها نسبة الى الرهبان جمع راهب كراكب وركبان ولعل التردد لاحتمال كون النسبة الى المفتوح والضم من التغيير النسب يعنى ان الرهبان لما كان اسما لطائفة مخصوصة صار بمنزلة العلم وان كان جمعا فى نفسه فالتحق بانصار واعراب وفرآئض فقيل رهبانى كما قيل انصارى واعرابى وفرآئض بدون رد الجمع الى واحدة فى النسبة.
وقال الراغب فى المفردات الرهبان يكون واحدا وجمعا فمن جعله واحدا جمعه على رهابين ورهبانية بالجمع أليق انتهى وهى الخصال المنسوبة الى الرهبان وسبب ابتداعهم اياها ان الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد رفع عيسى فقاتلوا ثلاث مرات فقتلوا حتى لم يبق منهم الا قليل فخافوا أن يفتتنوا فى دينهم فاختاروا الرهبانية فى قلل الجبال فارين بدينهم مخلصين انفسهم للعبادة منتظرين البعثة النبوية التى وعدها لهم عيسى عليه السلام كما قال تعالى
{ ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه احمد } الآية (وروى) ان الله لما أغرق فرعون وجنوده استأذن الذين كانوا آمنوا من السحرة موسى عليه السلام فى الرجوع الى الأهل والمال بمصر فأذن لهم ودعا لهم فترهبوا فى رؤوس الجبال فكانوا اول من ترهب وبقيت طائفة منهم مع موسى عليه السلام حتى توفاه الله ثم انقطعت الرهبانية بعدهم حتى ابتدعها بعد ذلك اصحاب المسيح عليه السلام { ماكتبناها عليهم } جلمة مستأنفة والنفى متوجه الى اصل الفعل اى مافرضنا عليهم تلك الرهبانية فى كتابهم ولا على لسان رسولهم { الا } استنثاء منقطع اى لكن ابتدعوها { ابتغاء رضوان الله } اى لطلب رضاه تعالى { فما رعوها حق رعايتها } اى فمارعوا جميعا حق رعايتها بضم التثليث والقول بالاتحاد وقصد السمعة والكفر بمحمد عليه السلام ونحوها اليه قال عليه السلام "من آمن بى وصدقنى فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بى فاولئك هم الهالكون" قال مقاتل لما استضعفوا بعد عيسى التزموا الغيران فما صبروا واكلوا الخنازير وشربوا الخمور ودخلوا مع الفساق وفى المناسبات فما رعوها اى لم يحفظها المقتدون بهم بعدهم كما اوجبوا على انفسهم حق رعايتها اى بكمالها بل قصروا فيها ورجعوا عنها ودخلوا فى دين ملوكهم ولم يبق على دين عيسى عليه السلام الا قليل ذمهم الله بذلك من حيث ان النذر عهد مع الله لايحل نكثه سيما اذا قصد رضاه تعالى { فآتينا الذين آمنوا منهم } اى من العيسيين ايمانا صحيحا وهو الايمان برسول الله عليه السلام بعد رعاية رهبانتيهم لامجرد رعياتها فانها بعد البعثة لغو محض وكفر بحت وانى لها استتباع الأجر قال فى كشف الاسرار لما بعث النبى عليه السلام ولم يبق منهم الا قليل حط رجل من صومعته وجاء سائح من سياحته وصاحب الدير وديره فآمنوا به والصومعة كل بناء متصومع الرأس اى متلاصقه والدير خان النصارى وصاحبه ديار { اجرهم } اى مايحسن ويليق بهم من الاجر وهو الرضوان { وكثير منهم } اى من العيسيين وهم الذين ابتدعوا فضيعوا وكفروا بمحمد عليه السلام { فاسقون } خارجون عن حد الاتباع وهم الذين تهودوا وتنصروا قال فى تفسير المناسبات وكذلك كان فى هذه الامة فانه لما توفى رسول الله تبعه خلفاؤه باحسان فلما مضت الخلافة الراشدة وتراكمت الفتن كما اخبر عليه السلام واشتد البلاء على المتمسكين بصريح الايمان ورجم البيت بحجارة المنجنيق وهدم وقتل عبدالله بن الزبير رضى الله عنه واستبيحت مدينة رسول الله عليه السلام ثلاثة ايام وقتل فيها خيار المسلمين رأى المؤمنون العزلة واجبة فلزموا الزوايا والمساجد وبنوا الربط على سواحل البحر واخذوا فى الجهاد للعدو والنفوس وعالجوا تصفية اخلاقهم ولزموا الفقر اخذا من احوال اهل الصفة وتسموا بالصوفية وتكلموا على الورع والصدق والمنازل والاحوال والمقامات فهؤلاء وزان اولئك انتهى
وفى الحديث
"يا ابن ام معبد أتدرى مارهبانية امتى قلت الله ورسوله اعلم قال الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلاع" (روى) ان نفرا من الصحابة رضى الله عنهم أخذهم الخوف والخشية حتى أراد بعضهم أن يعتزل عن النساء وبعضهم الاقامة فى رؤوس الجبال وبعضهم ترك الاكل والشرب وبعضهم غير ذلك فنهاهم عليه السلام عن ذلك كله وقال "لا رهبانية فى الاسلام" وقال "رهبانية امتى فى المسجد" يعنى المتعبدون من امتى لايأخذون مأخذ النصارى بل يعتكفون فى المساجد دون رؤوس الجبال وقال فى نفى صوم الوصال "انى لست كهيئتكم انى أبيت لى مطعم يطعمنى وساق يسقينى" (وفى المثنوى)

هين مكن خودرا خص رهبان مشو زانكه عفت هست شهوت راكرو
بى هوا نهى از هوا ممكن نبود غازيى بر مردكاتن نتوان نمود
بس كلوا از بهر دام شهوتست بعد ازان لاتسرفوا آن عفتست
جونكه رنج صبر نبود مرترا شرط نبود بس فرونايد جزا
حبذا آن شرط وشادا آن جزا آن جزاى دلنواز جان فزا

قال الشافعىرحمه الله اربعة لايعبأ الله بهم يوم القيامة زهد خصى وتقوى جندى وأمانة امرأة وعبادة صبى وهو محمول على الغالب كما فى المقاصد الحسنة ثم ذكر لاتنبغى الخلوة والعزلة قال فى الاحياء لما بنى عروة قصره بالعقيق وهو كأمير موضع بالمدينة لزومه فقيل له لزمت القصر وتركت مسجد رسول الله فقال رأيت مساجدكم لاهية واسواقكم لاغية والفاحشة فى فجاجكم عالية ومما هنالكم عما أنتم فيه عافية (وحكى) ان جماعة من السلف مثل مالك وغيره تركوا اجابة الدعوات وعيادة المرضى والجنائز بل كانوا احلاس بيوتهم لايخرجون الا الجمعة وزيارة القبور وبعضهم فارق الأمصار وانحاز الى قلل الجبال تفرغا للعبادة وفرارا من الشواغل واختار جماعة من السلف العزلة لمشاهدتهم المنكرات فى الاسواق والاعياد والمجامع وعجزهم عن التغيير وهذا يقتضى لزوم الهجرة وفى الآية دليل على ان الشروع فى نفل العبادة ملزم وان من شرع فيما ليس عليه ثم تركه استحق اسم الفسق والوعيد فيجب على الناذر رعاية نذره لانه عهد مع الله لايحل نكثه (وروى) عن بعض الصحابة رضى الله عنهم عليكم باتمام هذه التروايح لانها لم تكن واجبة علكيم وقد اوجبتموها على أنفسكم فانكم ان تركتم صرتم فاسقين ثم قرأ هذه الآية { وكثير منهم فاسقون }.
يقول الفقير وهكذا شأن الصلاة المعروفة بالرغائب والبرآءة والقدر فانها ملحقة بالتراويح لكونها من صلاة الليل وقد كانت سنة مسلوكة للعلماء بالله فلا تترك ابدا عند من اعتقد اعتقادهم قال فى فتح الرحمن واختلف الائمة فما اذا انشأ صوما او صلاة تطوعا فقال ابو حنيفة لم يجزله الخروج منه فان أفسده فعليه القضاء لقوله تعالى
{ ولا تبطلوا اعمالكم } وقال مالكرحمه الله كذلك الا انه اعتبر العذر فقال ان خرج منه لعذر فلا قضاء والا وجب وقال الشافعى واحمد رحمهما الله متى انشأ واحدا منهما استحب اتمامه فان خرج منه لم يجب عليه قضاء على الاطلاق واما اذا كان التطوع حجا او عمرة فيلزم اتمامه أفسده وجب قضاؤه لوجوب المضى فى فساده انتهى.
قال بعض الكبار جميع ما ابتدع من السنة الحسنة على طريق القربة الى الله تعالى داخل فى الشريعة التى جاءت بها الرسل عن امر الله قال تعالى { ورهبانية } الخ فأقرهم تعالى عليها ولم يعب عليهم فعلها انما عاب عليهم عدم رعايتهم لها فى دوام العمل فقط وخلع عليها اسم البدعة فى حقهم بخلاف هذه الامة خلع على مااستحسنوه ا سم السنة تشريفا لهم كما قال عليه السلام
"من سن سنة حسنة" وماقال من ابتدع بدعة حسنة فافهم فاجاز لنا ابتداع ماهو حسن وسماه سنة وجعل فيه اجرا لمن ابتدعه ولمن عمل به واخبر أن العابد لله تعالى بما يعطيه نظره اذا لم يكن على شرع من الله معين انه يحشر امة وحده بغير امام يتبعه كما قال تعالى فى ابراهيم { ان ابراهيم كان امة قانتا لله } وذلك لنظره فى الأدلة قبل أن يوحى اليه وقال عليه السلام "بعثت لاتمم مكارم الاخلاق فمن كان عليها فهو على شرع ربه وان لم يعلم" وقال بعضهم جميع ما ابتدعه العلماء والعارفون مما لم تصرح الشريعة بالامر به لايكون بدعة الا ان خالف صريح السنة فان لم يخالفها فهو محمود وذلك كحلق الرأس ولبس المرفقعات والرياضة بقلة الطعام والمنام والمواظبة على الذكر والجهر به على الهيئة المشهورة ونحو ذلك من جميع اوصافهم فانه كلها نواميس حكمية لم يجيىء بها رسول الله عليه السلام فى عموم الناس من عندالله لكونها طريقة أهل الخصوص السالكين طريق الحق وهذه الطريق لاتحتمل العامة الامر بها ولاتجب هى عليهم فقد علمت ان طريق القوم صادرة عن الله ولكن من غير الطريق الصريح النبوى ولولا انه عليه السلام فتح لامته باب الاستنان مااجترأ احد منهم على أن يزيد حكما ولا وضعا ففى الصحيح "من سن سنة حسنة فله اجرها وأجر من عمل بها" وقال بعضهم المقصود بالوضع الشرعى الالهى هو تكميل النفوس علما او عملا وهم اتوا بامور زآئدة على الطريقة النبوية موافقة لها فى الغاية والغرض كالامور التى التزمها الصوفية فى هذه الامة بغير ايجاب من الله كتقليل الطعام و كثرة الصيام والاجتناب عن مخالطة الانام وقلة المنام والذكر على الدوام وقال بعضهم مايصدر عن الواصل من الافعال شريعة وكذا الباقى فلا بد من الاعتدال و لذلك قال عليه السلام "الشريعة اقوالى والطريقة اطوارى والمعرفة رأس مالى والحقيقة نقد حالى" وقال بعضهم لاتبتدع فيوجب الله ذلك الابتداع عليك وفى شرعنا من سن سنة حسنة فما سماها بدعة فان شرعنا قد قررها فليشكر الله صاحب هذه البدعة وليلزمها حيث ألحقه تعالى بأنبيائه ورسله واباح له أن يسن ماسنته الرسل مما يقرب الى الله تعالى ولايخفى ان الكامل من عباد الله من سد باب الابتداع ولم يزد فى التكاليف حكما واحدا موافقه لمراد الله ومراد رسول الله من طلب الرفق والرحمة وقال بعضهم لاتجعل وردك غير ماورد فى الكتاب والسنة تكن من العلماء الادباء لانك حينئذ تجمع بين الذكر والتلاوة فيحصل لك اجر التالين والذاكرين فماترك الكتاب والسنة مرتبة يطلبها الانسان من خير الدنيا والآخرة الا وقد ذكرها فمن وضع من الفقرآء وردا من غير الوارد فى السنة فقد أساء الأدب مع الله ورسوله الا أن يكون ذلك بتعريف من الله فيعرفه خصائص كلمات يجمعها فيكون حينئذ ممتثلا لامخترعا وذلك مثل حزب البحر للشاذلىرحمه الله ونحوه فانهرحمه الله صرح بأنه ماوضع حرفا منه الا باذن الله ورسوله وقال من دعا بغير مادعا به رسول الله فهو مبتدع وقال بعضهم العبد فى ادآء الفرآئض عبد اضطرار وفى فعل النوافل عبد اختيار وعبودية الاضطرار أشرف وأسلم فى حقه من عبودية الاختيار لما قد يخطر بباله فى عبودية الاختيار من شائبة الامتنان ومن ههنا ترك اكابر الرجال من الملامية فعل النوافل واقتصروا على ادآء الفرآئض خوفا من خطور ذلك على قلوبهم فيجرح عبوديتهم وفى الحكم العطائية من علامة اتباع الهوى المسارعة الى نوافل الخيرات والتكاسل عن القيام بحقول الواجبات وهذا حال غالب الخلق الا من عصمه الله ترى الواحد منهم يقوم بالنوافل الكثيرة ولا يقوم بفرض واحد على وجهه