التفاسير

< >
عرض

فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٤
-المجادلة

روح البيان في تفسير القرآن

{ فمن لم يجد } اى فالمظاهر الذى لم يجد الرقبة وعجز عنها بأن كان فقيرا وقت التكفير وهو من حين العزم الى أن تقرب الشمس من الغروب من اليوم الاخير مما صام فيه من الشهرين فلا يتحقق العجز الحقيقى الا به والاعتبار بالمسكن والثياب التى لابد منها فان المعتبر فى ذلك هو الفضل والذى غاب ماله فهو واجد { فصيام شهرين } اى فعليه صيام شهرين { متتابعين } ليس فيهما رمضان ولا الايام الخمسة المحرم وصومها اى يوما العيد وايام التشريق فيصلهما بحيث لايفصل يوما عن يوم ولاشهرا عن شهر بالافطار فان افطر فيهما يوما أو اكثر بعذر او بغير عذر استأنف ولم يحسب ماصام الا بالحيض كما سيجيىء { من قبل أن يتماسا } ليلا او نهارا عمدا او خطأ ولو جامع زوجة اخرى ناسيا لا يستأنف ولو أفطرت المرأة للحيض فى كفار القتل او الفطر فى رمضان لا تستأنف لكنها تصل صومها بأيام حيضها ثم انه ان صام بالاهلة أجزأه وان صام ثمانية وخمسين بأن كان كل من الشهرين ناقصا وان صامها بغيرها فلا بد من ستين يوما حتى لو أفطر صبيحة تسعة وخمسين وجب عليه الاستئناف { فمن لم يستطع } اى الصيام بسبب من الاسباب كالهرم والمرض المزمن اى الممتد الغير المرجو برؤه فانه بمنزلة العاجز من كبر السن وان كان يرجى برؤه واشتدت حاجته الى وطىء امرأته فالمختار أن ينتظر البرء حتى يقدر على الصيام ولو كفر بالاطعام ولم ينتظر القدرة على الصيام أجزأه ومن الاعذار الشبق المفرط وهو أن لايصبر على الجماع فانه عليه السلام رخص للاعرابى أن يعطى الفدية لاجله { فاطعام ستين مسكينا } الاطعام جعله الغير طاعما ففيه رمز الى جواز التمليك والاباحة فى الكفارة والمسكين ويفتح ميمه من لاشىء له او له مالايكفيه وأسكنه الفقر اى قلل حركته والذليل والضعيف كما فى القاموس قال القهستانى فى شرح مختصر الوقاية قيد المسكين اتفاقى لجواز صرفه الى غيره من مصارف الزكاة.
يقول الفقير انما خص المسكين بالذكر لكونه أحق بالصدقة من سائر مصارف الزكاة كما ينبىء عنه ماسبق آنفا من تفسير القاموس واطعام ستين مسكينا وان أعطاه فى يوم واحد وبدفعات لايجوز على الصحيح فيطعم لكل مسكين نصف صاع من بر او صاعا من غيره كما فى الفطرة والصاع اربعة امداد ونصفه مدان ويجب تقديمه على المسيس لكن لايستأنف ان مس فى خلال الاطعام لان الله تعالى لم يذكر التماس مع الاطعام هذا عند أبى حنيفةرحمه الله واما عند الآخرين فالاطعام محمول على المقيد فى العتق والصيام ويجوز دفع الكفارة لكافر واخراج القيمة عند ابى حنيفةرحمه الله خلافا للثلاثة وفى الفقه هذا اذا كان المظاهر حرا فلو كان عبدا كفر بالصوم وان اعطاه المولى المال وليس له منعه عن الصوم فان أعتق وأيسر قبل التكفير كفر بالمال { ذلك } اى ذلك البيان والتعليم للاحكام والتنبيه عليها واقع او فعلنا ذلك { لتؤمنوا بالله ورسوله } وتعملوا بشرآئعه التى شرعها لكم وترفضوا ما كنتم عليه من جاهليتكم ان قيل اذا كان ترك الظهار مفروضا فما بال الفقهاء يجعلونه بابا فى الفقه أجيب بأن الله وان أنكر الظهار وشنع على من تعود به من الجاهلين الا انه تعالى وضع له احكاما يعمل بها من ابتلى به من الغافلين فبهذا الاعتبار جعلوه بابا ليبينوا تلك الاحكام وزادوا قدر مايحتاج اليه من ان المحققين قالوا ان اكثر الاحكام الشرعية للجهال فان الناس لو احترزوا عن سوء المقال والفعال لما احتيج الى تكثير القيل والقال ودلت الآية على ان الظهار أكثر خطأ من الحنث فى اليمين لكون كفارته اغلظ من كفارة الحنث واللام فى لتؤمنوا للحكمة والمصلحة لانها اذا قارنت فعل الله تكون للمصلحة لانه الغنى المطلق واذا قارنت فعل العبد تكون للغرض لانه المحتاج المطلق فأهل السنة لايقولون لتلك المصلحة غرضا اذ الغرض فى العرف مايستكمل به طالبه استدفاعا لنقصان فيه تنفر عنه طبعه والله منزه عن هذا بلا خلاف والمعتزلة يقولون بناء على انه هو الشىء الذى لاجله يراد المراد ويفعل عندهم ولو قلنا بهذا المعنى لكنا قائلين بالغرض وهم لو قالوا بالمعنى لما كنا قائلين به { وتلك } اشارة الاحكام المذكورة من تحريم الظهار وايجاب العتق للواجد وايجاب الصوم لغير الواجد ان استطاع وايجاب الاطعام لمن لم يسطع { حدود الله } التى لايجوز تعديها وشرآئعه الموضوعة لعباده التى لايصح تجاوزها الى مايخالفها جمع حد وهو فى اللغة المنع والحاجز بين الشيئين الذى يمنع اختلاط احدهما بالآخر وحد الزنى وحد الخمر سمى بذلك لكونه مانعا لمتعاطيه عن المعاودة لمثله وجميع حدود الله على اربعة اضرب اما شىء لايجوز أن يتعدى بالزيادة عليه والا القصور عنه كأعداد ركعات صلاة الفرض واما شىء يجوز الزيادة عليه ولا يجوز النقصان منه واما شىء يجوز النقصان منه ولايجوز الزيادة عليه واما شىء يجوز الزيادة عليه والنقصان منه كما فى المفردات { وللكافرين } اى الذين لايعلمون بها ولا يقبلونها { عذاب اليم } عبر عنه بذلك للتغليظ على طريقة قوله تعالى
{ ومن كفر فان الله غنى عن العالمين } يعنى ان اطلاق الكفر لتأكيد الوجوب والتغليظ على تارك العمل لا لانه كفر حقيقة كما يزعمه الخوارج قال بعضهم فى قوله عليه السلام "من ترك الصلاة فقد كفر" اى قارب الكفر يقال دخل البلدة لمن قاربها قال فى برهان القرءآن قوله { وللكافرين عذاب اليم } وبعده { وللكافرين عذاب مهين } لان الاول متصل بضده وهو الايمان فتوعدهم على الكفر العذاب الاليم هو جزاء الكافرين والثانى متصل بقوله { كبتوا } وهو الاذلال والاهانة فوصف العذاب مثل ذلك فقال { وللكافرين عذاب مهين } انتهى والأليم بمعنى المؤلم اى الموجع كالبديع بمعنى المبدع او بمعنى المتألم لكن اسند مجازا الى العذاب مبالغة كأنه فى الشدة بدرجة تتألم بها نفسه وفى اثبات العذاب للكافرين حث المؤمنين على قبول الطاعة ولما نزلت هذه الآيات الاربع تلاها عليه السلام فقال لاوس بن الصامت رضى الله عنه "هل تستطيع عتق رقبة قال اذن يذهب جل مالى قال فصيام شهرين متتابعين قال يارسول الله اذا لم آكل فى اليوم ثلاث مرات كل بصرى وخشيت أن تعشو عينى قال فاطعام ستين مسكينا قال لا الا أن تعيننى عليه قال اعينك بخمسة عشر صاعا وانا داع لك بالبركة" وتلك البركة بقيت فى آله كما فى عين المعانى.
يقول الفقير فى وجوه الاحكام المذكورة اما وجه العتق فلان العاصى استحق النار بعصيانه العظيم فجعل عتق المملوك فدآء لنفسه من النار كما قال عليه السلام
"من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل ارب منها اربا منه من النار" ودل تقييد الرقبة بالمؤمنة على أفضلية اعتاق المؤمن وايضا ان ثمن العبد اكثر غالبا من فدية الاطعام والمال يعد من النفس لشدة علاقة النفس به ففى بذله تخليص لها من رذيلة البخل وتنحية لها عن النار واما الوجه فى الصيام فلأن الاصل فيه صيام شهر رمضان وهو ثلاثون يوما ففى صيام ستين يوما تضعيف المشقة وتشديد المحنة على النفس واما الوجه فى اطعام المساكين اما فى نفس الاطعام فلأن الصوم التخلق بوصف الصمدية فاذا فات عنه ذلك لزوم المعالجة بضده وهو الاطعام لان فى بذل المال اذابة النفس كما فى الصوم ومن هذا يعرف سر التنزيل من الرقبة الى الصوم ثم منه الى الاطعام واما فى عدد المساكين فلأن الاطعام بدل من الصيام وخلف له فروعى فيه من العدد ماروعى فى الصيام ويجوز أن يقال ان الله تعالى خلق آدم عليه السلام من ستين نوعا من طبقات الارض فأمر باطعام ستين مسكينا من اولاد آدم حتى تقع المكافأة لجميع اولاده لانه لايخرج احد منهم عن هذه الستين نوعا وايضا سر العدد كون عمر هذه الامة بين الستين والسبيعن فمن راعى العدد فكانما عبد الله ستين سنة التى هى مبلغ عمره ومنتهى امده بحسب الغالب فيتخلص من النار ولكن فيه اشارة الى فضيلة الوقت فانه اذا فات العمل من محله لاينجبر بالقضاء بكماله الاولى بل يصير ساقطا عن درجة الكمال الاولى بستين درجة ولذا وجب صيام ستين واطعامها (قال المولى الجامى)

هردم از عمر كرامى هست كنج بى بدل ميرود كنجى جنين هر لحظه برباد آخ آخ

(وقال الشيخ سعدى)

مكن عمر ضايع بافسوس وحيف كه فرصت عزيزست والوقت سيف

وفى الاية الاشارة الى أن النفس مطية الروح وزوجته فاذا ظاهر زوج الروح من زوجة النفس بقطع الاستمتاع عنها لغلبة الروحانية عليها ثم بحسب الحكمة الالهية المقتضية لتعلق زوج الروح مع زوجة النفس أراد أن يستمتع منها فعلى زوج الروح يجب من طريق الكفارة تحرير رقبة عن ذلك الاستمتاع والتصرف فيها بأن لايستمتع ولا يتصرف فيها الا بامر الحق ومقتضى حكمته لا بمقتضى طبعه ومشتهيات هواه فانه لايجوز له وعلى تقدير شدة اشتباك زوج الروح بزوجة النفس وقوة ارتباطهما الذاتية ارتباط الراكب بالمركوب وارتباط ربان السفينة بالسفينة ان لم يقدر على تحرير رقبة عن هذا الارتباط فيجب على زوج الروح أن يصوم شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا يعنى أن يمسك نفسه عن الالتفات الى الكونين على الدوام والاستمرار من غير تخلل التفات وان لم يتمكن من قطع هذا التفات لبقاء من بقايا انانيته فيه فيجب عليه اطعام ستين مسكينا من مساكين القوى الروحانية المستهلكة تحت سلطنة النفس وصفاتها ليقيمهم على التخلق بالاخلاق الالهية والتحقق بالصفات الروحانية