التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَٰتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ
٩٨
-الأنعام

روح البيان في تفسير القرآن

{ وهو الذى انشأكم } مع كثرتكم { من نفس واحدة } من نفس آدم وحدها فانه خلقنا جميعاً منه وخلق امّنا حواء من ضلع من اضلاع آدم فصار كل الناس محدثة مخلوقة من نفس واحدة حتى عيسى فان ا بتداء تكوينه من مريم التى هى مخلوقة من ماء ابويها وانما منّ علينا بهذا لان الناس اذا رجعوا الى اصل واحد كانوا اقرب الى ان يألف بعضهم بعضا.
قال اهل الاشارة ان الله تعالى كما خلق آدم ابتداء وجعل اولاده منه كذلك خلق روح محمد صلى الله عليه وسلم قبل الارواح كما قال
"اول ما خلق الله روحى"
.ثم خلق الارواح من روحه فكان آدم أبا البشر وكان محمد صلى الله عليه وسلم ابا الارواح واليه يشير قوله تعالى { هو الذى انشأكم من نفس واحدة } { فمستقر ومستودع } كل واحد منهما مصدر ميمى مرفوع على الابتداء والخبر محذوف اى فلكم استقرار فى الاصلاب او فوق الارض واستيداع فى الارحام او تحت الارض وجعل صلب الاب مستقر النطفة ورحم الام مستودعا لها لان النطفة حصلت فى صلب الاب لا من قبل الغير وحصلت فى رحم الام بفعل الغير فاشبهت الوديعة كأن الرجل اودعها ما كان مستقرا عنده. وقال الحسن يا ابن آدم انت وديعة فى اهلك ويوشك ان تلحق بصاحبك وانشد قول لبيد

وما المال والاهلون الا وديعة ولا بد يوما ان ترد الودائع

والقلب ايضا من الودائع والامانات: قال الصائب

ترا بكوهر دل كرده اند اما نتدار نه دزد امانت حق را نكاه دار مخسب

{ قد فصلنا الآيات } المبينة لتفاصيل خلق البشر من هذه الآية ونظائرها { لقوم يفقهون } غوامض الدقائق باستعمال الفطنة وتدقيق النظر وانما ذكر مع ذكر النجوم يعلمون ومع ذكر تخليق بنى آدم يفقهون لان ذلك اشارة الى آيات الآفاق وهذا الى آيات الانفس ولا شك ان آيات الآفاق اظهر واجلى وآيات الانفس ادق واخفى فكان ذكر الفقه لها انسب واولى لان الفقه عبارة عن الوقوف على المعنى الخفى واصل تركيب الفقه يدل على الشق والفتح والفقيه العالم الذى يشق الاحكام ويفتش عن حقائقها ويفتح ما استغلق منها فالفقه انما يطلق حيث يكون فيه حذاقة وتدقيق. نظر قال الحدادى الفقه فى اللغة هو الفهم لمعنى الكلام الا انه قد جعل فى العرف عبارة عن علم الغيب على معنى انه استدراك معنى الكلام بالاستنباط من الاصول ولهذا لا يجوز ان يوصف الله تعالى بانه فقيه لانه لا يوصف بالعلم على جهة الاستنباط ولكنه عالم بجميع الاشياء على وجه احد انتهى. ثم هذه الآيات الآفاقية والانفسية تفصح عن صنع الله البديع وتدعو اهل الشرك الى التوحيد والايمان واهل الاخلاص الى الشهود والعيان واهل المعصية الى الطاعة والتوبة باللسان والجنان فان الامتنان بذكر النعم الجليلة يستدعى شكرا لها ومعرفة لحقها ولكل قوم وفريق سلوك الى طريق التحقيق على حسب ما انعم عليه من توحيد الافعال والصفات والذات فعلى العاقل ان يجتهد فى طلب الحق فان المقصود من ترتيب مقدمات العوالم آفاقية كانت او انفسية هو الوصول الى الظاهر من جهة المظاهر وانما اصل الحجاب هو الغفلة ـ وحكى ـ ان الشيخ أبا الفوارس شاهين بن شجاع الكرمانىرحمه الله خرج للصيد وهو ملك كرمان فامعن فى الطلب حتى وقع فى برية مقفرة وحده فاذا هو بشاب راكب على سبع وحوله سباع فلما رأته ابتدرت نحوه فزجرها الشاب عنه فلما دنا اليه سلم عليه وقال له ياشاه ما هذه الغفلة عن الله اشتغلت بدنياك عن آخرتك وبلذاتك وهواك عن خدمة مولاك انما اعطاك الله الدنيا لتستعين بها على خدمته فجعلتها ذريعة الى الاشتغال عنه فبينما الشاب يحدثه اذ خرجت عجوز بيدها شربة ماء فناولتها الشاب فشرب فدفع باقيه الى الشاه فشربه فقال ما شربت شيأ ألذ منه ولا ابرد ولا اعذب ثم غابت العجوز فقال الشاب هذه الدنيا وكلها الله الى خدمتى فما احتجت الى شئ الا احضرته الى حين يخطر ببالى أما بلغك ان الله تعالى لما خلق الدنيا قال لها "يا دنيا من خدمنى فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه"
. فلما رأى ذلك تاب وكان منه ما كان وانشد بعضهم

خدمت لما ان صرت من خدمك ودار عندى السرور من نعمك
وكانت الحادثات تطرقنى فاستحشمتنى اذ صرت من حشمك

اللهم اجعلنا من الملازمين لبابك ولا تقطعنا عن جنابك.