التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٨
-الجمعة

روح البيان في تفسير القرآن

{ قل ان الموت الذى تفرون منه } ولا تجسرون على أن تتمنوه مخالفة أن تؤخذوا بوبال كفركم { فانه ملاقيكم } البتة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه يعنى بكيرد شمارا وشربت آن بجشيد وفرار سودى ندارده، والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار الوصف اى باعتبار كون الموصوف بالموصوف فى حكم الموصول اى ان فررتم من الموت فانه ملاقيكم كأن الفرار سبب لملاقاته وسرعة لحوقه اذ لايجد الفار بركة فى عمره بل يفر الى جانب الموت فيلاقيه الموت ويستقبله وقد قيل اذا ادبر الامر كان العطب فى الحيلة { ثم } اى بعد الموت الاضطرارى الطبيعى { تردون } الرد صرف الشىء بذاته او بحالة من احواله يقال رددته فارتد والآية من الرد بالذات مثل قوله تعالى { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } ومن الرد الى حالة كان عليها قوله تعالى { يردوكم على ادباركم } { الى عالم الغيب والشهادة } الذى لاتخفى عليه احوالكم اى ترجعون الى حيث لاحاكم ولا مالك سواه وانما وصف ذاته بكونه عالم الغيب والشهادة باعتبار أحوالهم الباطنة واعمالهم الظاهرة وقد سبق تمام تفسيره فى سورة الحشر { فينبئكم } بس خبر دهدشمارا { بما كنتم تعملون } من الكفر والمعاصى والفواحش الظاهرة والباطنة بأن يجازيكم بها.
وفى التأويلات النجمية يشير الى الموت الارادى الذى هو ترك الشهوات ودفع المستلذات الذى تجتنبون منه لضعف همتكم الروحانية ووهن نهمتكم الربانية فانه ملاقيكم لايفارقكم ولكن لاتشعرون به لانهماككم فى بحر الشهوات الحيوانية واستهلاككم فى تبار مشتهياتكم الظلمانية فانكم فى لبس من خلق جديد ولا تزالون فى الحشر والنشر كا قال وجاءكم الموج من كل مكان اى موج الموت فى كل لذة شهية ونعمة نعيمة ثم تردون الى عالم الغيب غيب النيات وغيب الطويات القلبية السرية والشهادة شهادة الطاعات والعبادات فينبئكم اى فيجازيكم بما كنتم تعملون بالنية الصالحة القلبية او بالنية الفاسدة النفسية انتهى، وفيه اشارة الى انه كما لاينفع الفرار من الموت الطبيعى كذلك لاينفع الفرار من الموت الارادى لكن ينبغى للعاقل آن يتنبه لفنائه فى كل آن ويختار الفناء حبا للبقاء مع الله الملك المنان.
اعلم ان الفرار الطبيعى من الموت بمعنى استكراه الطبع وتنفره منه معذور صاحبه لان الخلاص منه عسير جدا الا للمشتاقين الى لقاء الله تعالى (حكى) انه كان ملك الملوك أراد أن يسير فى الارض فدعا بثياب ليلبسها فلم تعجبه فطلب غيرها حتى لبس ما اعجبه بعد مرات وكذا طلب دابة فلم تعجبه حتى أتى بدواب فركب احسنها فجاء ابليس فنفخ فى منخره فملأه كبرا ثم سار وسارت معه الخيول وهو لاينظر الى الناس كبرا فجائه رجل رث الهيئة فسلم فلم يرد عليه السلام فأخذ بلجام دابته فقال ارسل اللجام فقد تعاطيت امرا عظيما قال ان لى اليك حاجة قال اصبر حتى انزل قال لا الا الآن فقهره على لجام دابته قال اذكرها قال هو سر فدنا اليه فساره وقال انا ملك الموت فتغير لون الملك واضطرب لسانه ثم قال دعنى حتى ارجع الى اهلى واقضى حاجتى فأودعهم قال لا والله لاترى اهلك ومالك ابدا فقبض روحه فخر كأنه خشبة ثم مضى فلقى عبدا مؤمنا فى تلك الحال فسلم فرد عليه السلام فقال ان لى اليك حاجة اذكرها فى اذنك فقال هات فساره انا ملك الموت فقال مرحبا واهلا بمن طالت غيبته فوالله ما كان فى الارض غائب أحب الى أن القاه منك فقال ملك الموت اقض حاجتك التى خرجت لها فقال مالى حاجى اكبر عندى ولا احب من لقاء الله قال فاختر على اى حالة شئت أن اقبض روحك فقال أتقدر على ذلك قال نعم انى امرت بذلك قال فدعنى حتى اتوضأ واصلى فاقبض روحى وانا ساجد فقبض روحه وهو ساجد (وفى المثنوى)

بس رجال از نقل عالم شادمان وز بقايش شادمان اين كودكان
جونكه آب خوش نديدآن مرغ كور بيش او كوثر نمايد آب شور

واما الفرار العقلى بمعنى استكراهه الموت او بمعنى الانتقال من مكان الى مكان فالاول منهما ان كان من الانهماك فى حظوظ الدنيا فمذموم وان كان من خوف الموقف فصاحبه معذور كما حكى ان سليمان الدارانى قدس سره قال قلت لامى أتحبين الموت قالت لا قلت لم قالت لانى لو عصيت آدميا مااشتهيت لقاءه فكيف احب لقاءه وقد عصيته وقس عليه الاستكراه رجاء الاستعداد لما بعد الموت واما الثانى منهما فغير موجه عقلا ونقلا اذا المشاهدة تشهد أن لامخلص من الموت فأينما كان العبد فهو يدرك واما الفرار من بعض الاسباب الظاهرة للموت كهجوم النار المحرقة للدور والسيل المفرط فى الكثرة والقوة وحمل العدو الغالب والسباع والهوام الى غير ذلك فالظاهر انه معذور فيه بل مأمور واما الفرار من الطاعون فما يرجحه العقل والنقل عدم جوازه، اما العقل فما قاله الامام الغزالىرحمه الله من ان سبب الوباء فى الطب الهوآء المضر واظهر طرق التداوى الفرار من المضر ولا خلاق انه غير منهى عنه الا ان الهوآء لايضر من حيث انه يلاقى ظاهر البدن من حيث دوام الاستنشاق له فانه اذا كان فيه عفونة ووصل الى الرئه والقلب وباطن الاحشاء اثر فيها بطول الاستنشاق فلا يظهر الوباء على الظاهر الا بعد طول التأثير فى الباطن فالخروج من البلد لايخلص غالبا من الاثر الذى استحكم من قبل ولكنه يتوهم الخلاص فيصير هذا من جنس الموهومات كالرقى والطيرة وغيرهما وانه لو رخص للاصحاء فى الخروج لما بقى فى البلد الا المرضى الذين اقعدهم الطاعون وانكسرت قلوبهم ولم يبق فى البلد من يسقيهم الماء ويطعمهم الطعام وهم يعجزون عن مباشرتهما بأنفسهم فيكون ذلك سعيا فى اهلاكهم تحقيقا وخلاصهم منتظركما ان خلاص الاصحاء منتظر فلو اقاموا لم تكن الاقامة قاطعة لهم بالموت ولو خرجوا لم يكن الخروج قاطعا بالخلاص وهو قاطع فى اهلاك الباقين والمسلمون كالبنيان يشد بعضهم بعضا والمؤمنون كالجسد الواحد اذا اشتكى مه عضو تداعى الى الاشتكاء سائر اعضائه هذا هو الذى يظهر عندنا فى تعليل النهى وينعكس هذا فيما اذا لم يقدم بعد على البلد فانه لم يؤثر الهوآء فى باطنه وليس له حاجة اليهم، واما النقل فقوله تعالى { ألم ترى الى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم احياهم } فانه انكار لخروجهم فرارا منه وتعجيب بشأنهم ليعتبر العقلاء بذلك ويتيقنوا أن لامفر من قضاء الله فالمنهى عنه هو الخروج فرارا فان الفرار من القدر لايغنى شيأ وفى الحديث "الفار من الطاعون كالفار من الزخف والصابر فيه له اجر شهيد" وفى الحديث "يختصم الشهدآء والمتوفون على فراشهم الى ربنا عز وجل فى الذين يتوفون فى الطاعون فيقول الشهدآء اخواننا قتلوا كما قتلنا ويقول المتوفون اخواننا ماتوا على فراشهم كما متنا فيقول ربنا انظروا الى جراحهم فان اشبهت جراحهم جراح المقتولين فانهم منهم فاذا جراحهم قد اشبهت جراحهم" .
يقول الفقير دل عليه قوله عليه السلام فى الطاعون "انه وخز اعدآئكم من الجن" والوخز طعن ليس بنافذ والشيطان له ركض وهمر ونفث ونفخ ووخز والجنى اذا وخز العرق من مراق البطن اى مارق منها ولان خرج من وخزه الغدة وهى التى تخرج فى اللحم فيكون وخز الجنى سبب الغدة الخارجة فحصل التوفيق بين حديث الوخز وبين قوله عليه السلام "غدة كغدة البعير تخرج من مراق البطن" وباقى مايتعلق بالطاعون سبق فى سورة البقرة وقد تكفل بتفاصيله رسالة الشفاء لادوآء الوباء لابن طاش كبرى فارجع