التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلْنَٰهَا رُجُوماً لِّلشَّيَٰطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ
٥
-الملك

روح البيان في تفسير القرآن

{ ولقد زينا السماء الدنيا } بيان لكون خلق السموات فى غاية الحسن والبهاء اثر بيان خلوها عن شائبة القصور وتصدير الجملة بالقسم لابراز كمال الاعتناء بمضمونها اى وبالله لقد زينا اقرب السموات الى الارض والناس وجملناها فالزين والتزيين بالفارسية آراستن. وهو ضد الشين بالفارسية معيوب كردن.
والدنيا تأنيث الأدنى بمعنى الاقرب وكون السماء اقرب من سائر السموات انما هو بالاضافة الى ما تحتها من الارض لا مطلقا لان الامر بالعكس بالاضافة الى ما فوقها من العرش { بمصابيح } بجراغها. جمع مصباح وهو السراج وتنكيره للتعظيم والمدح اى بكواكب مضيئة بالليل اضاءة السرج من السيارات والثوابت تترآءى كلها مركوزة فى السماء الدنيا مع ان بعضها فى سائر السماوات لان السموات اذا كانت شفافة وأجراما صافية فالكواكب سوآء كانت فى السماء الدنيا او فى سموات اخرى فهى لا بد وان تظهر فى السماء الدنيا وتلوح منها فعلى التقديرين تكون السماء الدنيا مزينة بهذه المصابيح ودخل فى المصابيح القمر لانه اعظم نير يضيئ بالليل واذا جعل الله الكواكب زينة السماء التى هى سقف الدنيا فليجعل العباد المصابيح والقناديل زينة سقوف المساجد والجوامع ولا سرف وفى الخير وذكر ان مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم كان اذا جاء العشاء يوقد فيه بسعف النخل فلما قدم تميم الدارى رضى الله عنه المدينة صحب معه قناديل وحبالا وزيتا وعلق تلك القناديل بسوارى المسجد واوقدت فقال عليه السلام
"نورت مسجدنا نور الله عليك اما والله لو كان لى ابنة لانكحتكها" وسماه سراجا وكان اسمه الاول فتحا ثم اكثرها عمر رضى الله عنه حين جمع الناس على أبى بن كعب رضى الله عنه فى صلاة التراويح فلما رآها على رضى الله عنه تزهر قال نورت مسجدنا نور الله قبرك يا ابن الخطاب وعن بعضهم قال امرنى المأمون ان اكتب بالاستكثار من المصابيح فى المساجد فلم أدر ما اكتب لانه شئ لم اسبق اليه فرأيت فى المنام اكتب فان فيه انسا للمتهجدين ونفيا لبيوت الله عنه وحشة الظلم فانتبهت وكتبت بذلك وفيه اشارة الى سماء القلب لدنوه منك من سماء الروح وزينة انوار المعارف والعلوم الالهية والواردات الرحمانية { وجعلناها } اى المصابيح المعبر بها عن النجوم اى بعضها كما فى تفسير ابى الليث { رجوما } جمع رجم بالفتح وهو ما يرجم به ويرمى للطرد والزجر او جمع راجم كسجود جمع ساجد { للشياطين } هم كفار الجن يخرجون الناس من النور الى الظلمات وجمع الشياطين على صيغة التكثير لكثرتهم فى الواقع فالمعنى وجعلنا لها فائدة اخرى هى رجم اعدآئكم بانقضاض الشهب المقتبسة من الكواكب لا بالكواكب نفسها فانها قارة فى الفلك على حالها فمنهم من يقتله الشهاب ومنهم من يفسد عضو من اعضائه او عقله والشهاب شعلة ساطعة من نار وهو ههنا شعلة نار تنفصل من النجم فأطلق عليها النجم ولفظ المصباح ولفظ الكوكب ويكون معنى جعلناها رجوما جعلنا منها رجوما وهى تلك الشهب ومما يؤيد ان الشعلة منفصلة من النجوم ما جاء عن سلمان الفارسى رضى الله عنه ان النجوم كلها كالقناديل معلقة فى السماء الدنيا كتعليق القناديل فى المساجد مخلوقة من نور وقيل انها معلقة بأيدى الملائكة وينصر هذا القول قوله تعالى { اذا السماء انفطرت واذا الكواكب انتثرت } لان انتثارها يكون بموت من كان يحملها من الملائكة وقيل ان هذه ثقب فى السماء وينصره قول بعض المكاشفين ان الكواكب ليست مركوزة فى هذا التعين وانما هى بانعكاس الانوار فى بعض عروقه اللطيفة والذى يرى كسقوط النجم فكدفع الشمس من موضع الى موضع وهذا لا يطلع عليه الحكماء وانما يعرفه اهل السلوك انتهى وقال الفلاسفة ان الشهب انما هى اجزآء نارية تحصل فى الجو عند ارتفاع الابخرة المتصاعدة واتصالها بالنار التى دون الفلك وقد سبق بيان هذا المقام مفصلا فى اوآئل الصافات والحجر فلا نعيده والذى يلوح ان مذهب الفلاسفة قريب فى هذه المادة من مذهب اهل الحقائق ومر بيان مذهبهم فى الصافات والله اعلم بالخفيات { واعتدنا لهم } اى هيئنا للشياطين فى الآخرة بعد الاحراق فى الدنيا بالشهب ومنه العتاد اى العدة والاهبة { عذاب السعير } اى عذاب جهنم الموقدة المشعلة فالسعير فعيل بمعنى مفعول من سعرت النار اذا اوقدتها ولذلك لم يؤت بالتاء فى آخره مع انه اسم للدركة الرابعة من دركات النار السبع وهى جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية ولكن كل من هذه الاسماء يطلق على الآخر فيعبر عن النار تارة بالسعير وتارة بجهنم واخرى بآخر.
واعلم ان فى كل دركة منها فرقة من فرق العصاة كعصاة اهل التوحيد والنصارى واليهود والصابئة والمجوس والمشركين والمنافقين ولم يذكروا الشياطين فى واحدة من الدركات السبع ولعلهم يقسمون على مراتب اضلالهم فيدخل كل قسم منهم مع قسم تبعه فى اضلاله فكان سببا لدخوله فى دركة من الدركات الست التحتانية جزآء لضلاله واضلاله واذية لمن تبعه فيما دعا اليه بمصاحبته ومقارنته كما قال تعالى
{ وترى المجرمين يومئذ مقرنين } اى مع شياطينهم وفى الآية اشارة الى شياطين الخواطر النفسانية والهواجس الظلمانية وعذابها عذاب الرد والانقلاب بغلبة الخواطر الملكية والرحمانية.