التفاسير

< >
عرض

فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً
١٧
-المزمل

روح البيان في تفسير القرآن

{ فكيف تتقون } قال ابن الشيخ مرتب على الارسال فالعصيان وكان الظاهر أن يقدم على قوله كما أرسلنا الا انه أخر زيادة فى التهويل اذ علم من قوله فأخذناه انهم مأخوذون مثله واشد فاذا قيل بعده فكيف تتقون كان ذلك زيادة كأنه قيل هبوا انكم لا تؤخذون فى الدنيا اخذة فرعون وامثاله فكيف تتقون اى تقون أنفسكم فاتقى ههنا مأخوذ بمعنى وقى المتعدى الى مفعولين دل عليه قول الامام البيهقىرحمه الله فى تاج المصادر الاتقاء حذر كردن وخود رانكاه داشتن انتهى. وافتعل يجيئ بمعنى فعل نص عليه الزمخشرى فى المفصل وان كانت الامثلة لا تساعده فانه ليس وقى واتقى مثل جذب واجتذب وخطف واختطف فتأمل { ان كفرتم } اى بقيتم على الكفر { يوما } اى عذاب يوم فهو مفعول به لتتقون ويجوز أن يكون ظرفا اى فكيف لكم بالتقوى والتوحيد فى يوم القيامة ان كفرتم فى الدنيا اى لا سبيل اليه لفوات وقته فاتقى على حاله وكذا اذا انتصب بكفرتم على تأويل جحدتم اى فكيف تتقون الله وتخشون عقابه ان جحدتم يوم القيامة والجزآء { يجعل الولدان } من شدة هوله وفظاعة ما فيه من الدواهى وهو صفة ليوما نسب الجعل الى اليوم للمبالغة فى شدته والافنفس اليوم لا تأثير له البتة والولدان بالفارسية نوزادكان ازمادر.
جمع وليد يقال لمن قرب عهده بالولادة وان كان فى الاصل يصح اطلاقه على من قرب عهده بها ومن بعد { شيبا } شيوخا يعنى بيركندوموى سر ايشان سفيد سازد. جمع اشيب والشيب بياض الشعر وأصله ان يكون بضم الشين كحمر فجمع احمر لان الضم يقتضى الواو فكسرت لاجل صيانة الياء فرقا بين مثل سود وبين مثل بيض وجعلهم شيوخا فيه وجوه.
الاول انه محمول على الحقيقة كما ذهب اليه بعض اهل التفسير ويؤيده ما قال فى الكشاف وقد مر بى فى بعض الكتب ان رجلا امسى فاحم الشعر كحلك الغراب اى سواده واصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة بياضا وهو بفتح الثاء المثلثة وبالغين المعجة نبت ابيض قال أريت القيامة والجنة والنار ورأيت الناس يقادون فى السلاسل الى النار فمن هول ذلك اصبحت كما ترون وقال احمد الدورقى مات رجل من جيراننا شابا فرأيته فى الليل وقد شاب فقلت وما قصتك قال دفن بشر فى مقبرتنا فزفرت جهنم زفرة شاب منها كل من فى المقبرة كما فى فصل الخطاب وبشر المريسى ومريس قرية بمصر اخذ الفقه عن أبى يوسف القاضى الا انه اشتغل بالكلام وقال بخلق القرءآن واضل خلقا كثيرا ببغداد فان قلت ايصال الألم والضرر الى الصبيان يوم القيامةغير جائز بل هم لكونهم غير مكلفين معصومون محفوظون عن كل خطر قلت قد يكون فى القيامة من هيبة المقام ما يجثو به الانبياءعليهم السلام على الركب فما ظنك بغيرهم من الاولياء والشيوخ والشبان والصبيان وفى الآية مبالغة وهى انه اذا كان ذلك اليوم يجعل الولدان شيبا وهم ابعد الناس من الشيخوخة لقرب عهد ولادتهم فغيرهم اولى بذلك وكذا فى القصة السابقة فان من شاب بمجرد الرؤيا فكيف حاله فى اليقظة وهو معاين من الاهوال ما يذوب تحته الجبال الرواسى.
والثانى انه محمول على التمثيل بأن شبه اليوم فى شدة هوله بالزمان الذى يشيب الشبان لكثرة همومه واهواله واصله ان الهموم والاحزان اذا تفاقمت على المرء ضعفت قواه واسرع فيه الشيب لان كثرة الهموم توجب انعصار الروح الى داخل القلب وذلك الانعصار يوجب انطفاء الحرارة الغريزية وضعفها وانطفاؤها يوجب بقاء الاجزآء الغذآئية غير تامة النضج وذلك يوجب بياض الشعر ومسارعة الشيب بتقدير العزيز الحكيم كما يوجب تغير القلب تغير البشرة فتحصل الصفرة من الوجل والحمرة من الخجل والسواد من بعض الآلام وما على البدن من الشعر تابع للبدن فتغيره يوجب تغيره فثبت ان كثرة الهموم توجب مسارعة الشيب كما قيل
_@_

دهتنا امور تشيب الوليد ويخذل فيها الصديق الصديق

فلما كان حصول الشيب من لوازم كثرة الهموم جعلوه كناية عن الشدة فجعل اليوم المذكور الولدان شيبا عبارة عن كونه يوما شديدا غاية الشدة وفى الحديث "يقول الله اى فى يوم القيامة يا آدم خص آدم عليه السلام بهذا الخطاب لانه اصل الجميع فيقول لبيك وسعديك والخير فى يديك فيقول اخرج ببعث النار اى ميز اهلها المبعوث اليها قال وما بعث النار اى عدده قال الله تعالى من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون قال اى النبى عليه السلام فذلك التقاول حين يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها" قال ابن الملك اعلم ان الشيب والوضع ليسا على ظاهرهما اذ ليس فى ذلك اليوم حبل ولا صغير بل هما كنايتان عن شدة اهوال يوم القيامة معناه لو تصورت الحوامل والصغار هنالك لوضعن احمالهن ولشاب الصغار انتهى.
وفى بيانه نظر ستأتى الاشارة اليه فى الوجه الثالث
{ وترى الناس سكارى } اى من الخوف { وما هم بسكارى } اى من الخمر { ولكن عذاب الله شديد
} والثالث انه محمول على الفرض والتقدير بأن يكون معناه ان ذلك اليوم بحال لو كان هناك صبى لشاب رأسه من الهيبة والدهشة وهذا الوجه غير موجه وان ذهب اليه بعض من يعد من اجلة اهل التفسير اذ هو يشعر بأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان حقيقة وقد ثبت انه يبعث يومئذ ولدان كثيرة ماتوا فى الصغر وكذا من المقرر ان الحبلى تبعث حبلى ففى ذلك اليوم حبل وضغير نعم اذا دخلوا الجنة صاروا ابناء ثلاث وثلاثين.
والرابع انه يجوز ذلك وصفا لليوم بالطول يعنى على الكناية بانه فى طوله بحيث يبلغ الاطفال فيه اوان الشيخوخة والشيب وهو لا ينقضى بعد بل يمتد الى حيث يكون مقداره خمسين ألف سنة فهو كناية عن غاية الطول لا انه تقدير حقيقى يعنى ان هذا على عادة العرب ى التعبير عن الطول على سبيل التمثيل كما يعبرون عن التأبيد وعدم الانقطاع بقولهم ما ناحت حمامة وما لاح كوكب وما تعاقبت الايام والشهور وفى الآية اشارة الى النفس والهوى وبعد نفوسهم من الله فى يوم قيامة الفناء الذى يجعل ولدان اعمالهم السيئة القبيحة الخبيثة الخسيسة شيبا متهدمة متفانية.