التفاسير

< >
عرض

وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلَٰئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِيمَٰناً وَلاَ يَرْتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ
٣١
-المدثر

روح البيان في تفسير القرآن

{ وما جعلنا اصحاب النار } اى المدبرين لامرها القائمين بتعذيب اهلها فأصحاب النار هنا غير اصحاب النار فى قوله تعالى لا يستوى اصحاب النار واصحاب الجنة وفى كشف الاسرار وما جعلنا خزنة اصحاب النار فخذف المضاف انتهى وفيه بعد لانهم خزنة النار لا خزنة اصحابها { الا ملائكة } ليخالفوا جنس المعذبين من الثقلين فلا يرقوا لهم ولا يميلوا اليهم فان المجانسة مظنة الرأفة فلذا بعث الرسول من جنسنا ليرحم بنا ولانهم اقوى الخلق واقومهم بحق الله وبالغضب له تعالى واشدهم بأسا وعن النبى عليه السلام لقوة احدهم مثل قوة الثقلين يسوق احدهم الامة وعلى رقبته جبل فيرمى بهم فى النار ويرمى بالجبل عليهم ويروى انه لما نزل قوله تعالى عليها تسعة عشر قال أبو جهل لقريش أيعجز كل عشرة منكم ان يبشطوا برجل منهم فقال أبو الاسود ابن اسيد بن كلدة الجمحى وكان شديد البطش والقوة حتى كان من قوته انه اذا قام على اديم واجتمع جماعة على ازالة رجليه عنه لم يقدروا عليه فكانوا يشدون الاديم حتى يتقطع قطعا ورجلاه على حالهما أنا أكفيكم سبعة عشر منهم فاكفونى أنتم اثنين فنزلت اى وما جعلناهم رجالا من جنسكم يطاقون فمن ذا الذى يغلب الملائكة والواحد منهم يأخذ أرواح جميع الخلق وللواحد منهم من القوة ما يقلب الارض فيجعل عاليها سافلها.
واتمام آدميان طاقت ديداريك فرشته تدارندنا بمقاومت كجا بسر آيند { وما جعلنا عدتهم الا فتنة للذين كفروا } اى وما جعلنا عددهم الا العدد الذى تسبب لافتتانهم ووقوعهم فى الكفر وهو التسعة عشر فعبر بالاثر عن المؤثر أى بالفتنة عن العدد المخصوص تنبيها على التلازم بينهما وحمل الكلام على هذا لان جعل من دواخل المبتدأ والخبر فوجب حمل مفعوله الثانى على الاول ولا يصح حمل افتتان الكفار على عدد الزبانية الا بالتوجيه المذكور فان عدتهم سبب للفتنة لا فتنة نفسها ثم ليس المراد مجرد جعل عددهم ذلك العدد المعين فى نفس الامر بل جعله فى القرءآن ايضا كذلك وهو الحكم بأن عليها تسعة شعر اذ بذلك يتحقق افتتانهم باستقلالهم له واستبعادهم لتولى هذا العدد القليل امر الجمع الغفير واستهزآئهم به حسبما ذكر وعليه يدور ما سيأتى من استيقان اهل الكتاب وازدياد المؤمنين ايمانا { ليستيقن الذين اوتوا الكتاب } متعلق بالجعل على المعنى المذكور والسين للطلب اى ليكتسبوا اليقين بنبوته عليه السلام وصدق القرءآن لما شاهدوا ما فيه موافقا لما فى كتابهم وفى عين المعانى سأل اليهود رسول الله صلى عليه وسلم عن خزنة النار وعددهم فاجاب عليه السلا م بانهم تسعة عشر. يعنى دوباربا صابع يدين اشارت فرمود ودر كرت دوم ابهام يمنى را امساك فرمود { ويزداد الذين آمنوا ايمانا } اى يزداد ايمانهم كيفية بما رأوا من تسليم اهل الكتاب وتصديقهم انه كذلك او كمية بانضمام ايمانهم بذلك الى ايمانهم بسائر ما انزل { ولا يرتاب الذين اوتوا الكتاب والمؤمنون } تأكيد لما قبله من الاستيقان وازدياد الايمان فان نفى ضد الشئ بعد اثبات وقوعه ابلغ فى الاثباب ونفى لما قد يعترى المستيقن والمؤمن من شبهة ما فيحصل له يقين جازم بحيث لا شك بعده وانما لم ينظم المؤمنين فى سلك اهل الكتاب فى نفى الارتياب حيث لم يقل ولا يرتابوا للتنبيه على تباين النفيين حالا فان انتفاء الارتياب من اهل الكتاب مقارن لما ينافيه من الجحود ومن المؤمنين مقارن لما يقتضيه من الايمان وكم بينهما والتعبير عنهم باسم الفاعل بعد ذكرهم بالموصول والصلة الفعلية المنبئة عن الحدوث للايذان بثباتهم على الايمان بعد ازدياده ورسوخهم فى ذلك { وليقول الذين فى قلوبهم مرض } شك او نفاق فان كلا منهما من الامراض الباطنة فيكون احبارا بما سيكون فى المدينة بعد الهجرة اذ النفاق انما حدث بالمدينة وكان اهل مكة اما مؤمنا حقا واما مكذبا واما شاكا { والكافرون } المصرون على التكذيب فان قلت كيف يجوز أن يكون قولهم هذا مقصود الله تعالى قلت اللام ليست على حقيقتها بل للعاقبة فلا اشكال { ماذا أراد الله بهذا مثلا } تمييز لهذا او حال منه بمعنى ممثلا به كقوله هذه ناقة الله لكم آية اى اى شئ أراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل فاطلاق المثل على هذا العدد على سبيل الاستعارة حيث شبهوه بالمثل المضروب وهو القول السائر فى الغرابة حيث لم يكن عقدا تاما كعشرين او ثلاثين والاستفهام لانكار أنه من عند الله بناء على انه لو كان من عنده لما جاء ناقصا وافراد قولهم هذا بالتعليل مع كونه من باب فتنتهم للاشعار باستقلاله فى الشناعة { كذلك يضل الله من يشاء } ذلك اشارة الى ما قبله من معنى الضلال اى يضل الله من يشاء اضلاله كأبى جهل واصحابه المنكرين لخزنة جهنم وعددهم اضلالا كائنا مثل ما ذكر من الاضلال لا اضلالا أدنى منه لصرف اختياره الى جانب الضلال عند مشاهدته لآيات الله الناطقة بالحق واصلها ان الله لا يضل الا بحسب الضلالة الازلية لان الضلال وصرف الاختيار الى جانبه كل منهما من مقتضى عينه الثابتة { ويهدى من يشاء } هدايته كاصحاب محمد عليه السلام هدايته كائنة مثل ما ذكر من الهداية لا هداية أدنى منها لصرف اختياره عند مشاهدة تلك الآيات الى جانب الهدى وحقيقته ان الله لا يهدى الا بموجب الهداية الازلية اذ الاهتدآء وصرف الاختيار الى جانبه كل منهما من احواله الازلية فلا يجوز خلافه فى عالم العين فى الابد { وما يعلم جنود ربك } اى جموع خلقه التى من جملتها الملائكة المذكورون والجنود جمع جند بالضم وهو العسكر وكل مجتمع وكل صنف من الخلق على حدة وفى الحديث ان لله جنودا منها العسل { الا هو } لفرط كثرتها وفى حديث موسى عليه السلام انه سأل ربه عن عدد اهل السماء فقال تعالى اثنا عشر سبطا عدد كل سبط عدد التراب وفى الاسرار المحمدية ليس فى العالم موضع بيت ولا زاوية الا وهو معمور بما لا يعلمه الا الله والدليل على ذلك أمر النبى عليه السلام بالتستر فى الخلوة وان لا يجامع الرجل امرأته عريانين وفيه اشارة الى ان لله فى اختيار عدد الزبانية حكمة والا فجنوده خارجة عن دآئرة العدد والضبط قال القاشانى وما يعلم عدد الجنود وكميتها وكيفيتها وحقيقتها الا هو لاحاطة علمه بالماهيات واحوالها وفى التأويلات النجمية الا هويتة الجامعة لجميع جنود التعينات الغير المتناهية بحسب الاسماء الجزئية والجزئيات الاسماء قال بعض العارفين خلقت الملائكة على مراتب فأرواح ليس لهم عقل الا تعظيم جناب الله وليس لهم وجه مصروف الى العالم ولا الى نفوسهم قد هيمهم جلال الله واختطفهم عنهم فهم فيه حيارى سكارى وارواح مدبرة اجساما طبيعة ارضية وهى ارواح الاناسى وارواح الحيوانات من جسم عنصرى طبيعى وهذ الارواح المدبرة لهذه الاجسام مقصورة عليها مسخر بعضها لبعض كما قال تعالى ليتخذ بعضهم بعضا سخريا وارواح اخر مسخرات لمصالحنا وهم على طبقات كثيرة فمنهم الموكل بالوحى ومنهم الموكل بالالقاء ومنهم الموكل بالارزاق ومنهم الموكل بقبض الارواح ومنهم الموكل باحياء الموتى ومنهم الموكل بالاستغفار للمؤمنين والدعاء لهم ومنهم الموكل بالغراسات فى الجنة جزآء لاعمال العباد ومنهم غير ذلك واما مراتبهم وتفاوتهم ففيهم الاكبر والكبير فجبريل اكبرمن عزرآئيل وميكائيل اكبر من جبريل واسرافيل اكبر من ميكائيل وقال بعضهم هذه الجنود ليست معدة للمحاربة بل هى لترتيب المملكة الظاهرة للعالم الاعلى والاسفل لانه اذا كان ما فى السموات وما فى الارض جنوده فلمن يقاتلون فما بقى الا ان المراد بهم جنود التسخير اذ العالم كله مسخر بعضه لبعض وجميع الملائكة مسخرون لنا بأسرهم تحت ايدى الأثنى عشر ملكا الذين ولاهم الله على عالم الخلق ومقرهم فى الفلك الاقصى كل وال فى برج كأبراج سور المدينة جالس على تخت وقد رفع الله الحجاب بين هؤلاء الولاة وبين اللوح المحفوظ فرأوا فيه مسطرا اسماءهم ومراتبهم وما شاء الله ان يجريه على ايديهم فى عالم الخلق الى يوم القيامة فارتقم ذلك كله فى نفوسهم وعلوه علما محفوظا لا يتبدل ولا يتغير كما علمنا نحن اسماءهم واحوالهم من مقابلة قلوبنا للوح المحفوظ ثم ان الله جعل لكل واحد من هؤلاء الولاة حاجبين ينفذ ان اوامراهم الى نوابهم وجعل بين كل حاجبين سفيرا يمشى بينهما بما يلقى اليه كل واحد منهما وعين الله لهؤلاء الذين جعلهم حجابا لهؤلاء الولاة فى الفلك الثانى منازل يسكنونها وانزلهم اليها وهى الثمانى والعشرون منزلة التى تسمى المنازل التى ذكرها الله بقوله والقمر قدرناه منازل يعنى فى سيره ينزل كل يوم منزلة منها الى ان ينتهى الى آخرها ثم تدور دورة اخرى ليعلموا بسيره وسير الشمس والخنس عدد السنين والحساب وكل شئ فصله الحق لنا تفصيلا فأسكن فى هذه المنازل هذه الملائكة وهم حجاب اولئك الولاة الذين فى الفلك ثم ان الله امر هؤلاء ان يجعلوا لهم نوابا ونقباء فى السموات السبع فى كل سماء نقيبا كما لحجاب لهم لينظروا فى مصالح العالم العنصرى بما يلقيه اليهم هؤلاء الولاة ويأمرونهم به وهو قوله تعالى وأوحى فى كل سماء امرها فجعل الله اجسام هذه الكواكب النقباء اجساما نيرة مستديرة ونفخ فيها ارواحها وانزلها فى السموات السبع فى كل سماء واحد منهم وقال لهم قد جعلتكم تستخرجون ما عند هؤلاء الاثنى عشر واليا بواسطة الحجاب الثمانية والعشرين كما يأخذ اولئك الولاة عن اللوح المحفوظ ثم جعل الله لكل نقيب من هؤلاء السبعة النقباء فلكا يسبح فيه هوله كالجواد للراكب وهكذا الحجاب لهم افلاك يسبحون فيها اذ كان لهم التصرف فى حوادث العالم والاستشراف عليه ولهم سدنة وأعوان يزيدون على الالف اعطاهم الله مراكب سماها افلاكا فهم ايضا يسبحون فيها وهى تدور بهم على المملكة فى كل يوم مرة فلا يفوتهم شئ من المملكة اصلا من ملك السموات والارض فتدور الولاة وهؤلاء الحجاب والنقباء والسدنة كلهم فى خدمة هؤلاء الولاة والكل مسخرون فى حقنا اذ كنا نحن المقصود الاعظم من العالم كله قال تعالى وسخر لكم ما فى السموات وما فى الارض جميعا منه وسبب دوران الافلاك علينا كل يوم دورة انما هو لينظر هؤلاء الولاة فيما تدعو حاجة الخلق اليه من الامور فيسدوا خللهم وينفذوا احكام الله فيهم من كونه مريدا فى خلقه لا من كونه آمرا اليه فينفذون الاقدار فيهم فى ازمان مختلفة وكماجعل الله زمام هذه الامور بأيدى هؤلاء الجماعة من الملائكة واقعد منهم من اقعد فى برجه ومسكنه الذى فيه تحت ملكه وانزل من انزل من الحجاب والنقباء الى منازلهم فى سمواتهم كذلك جعل فى كل سماء ملائكة مسخرة وجعلهم على طبقات فمنهم اهل العروج بالليل والنهار من الحق الينا ومنا الى الحق فى كل صباح ومساء ولا يقولون الاخيرا فى حقنا ومنهم المستغفرون لمن فى الارض ومنهم المستغفرون للمؤمنين لغلبة الغيرة الالهية عليهم كما غلبت الرحمة على المستغفرين لمن فى الارض ومنهم الموكلون بايصال الشرآئع ومنه الموكلون بالممات ومنهم الموكلون بالالهام وهم الموصلون العلوم الى القلوب ومنهم الموكلون بالارحام بتصوير ما يكون لله فى الارحام ومنهم الموكلون بنفخ الارواح ومنهم الملائكة التسعة عشر الموكلون بالشفاعة لمن دخل النار ومنهم الموكلون بالارزاق ومنهم الموكلون بالامطار ومنهم الصافات والزاجرات والتاليات والمقسمات والمرسلات والناشرات والنازعات والناشطات والسابقات والسابحات والملقيات والمدبرات ولذلك قالوا ومامنا الا له مقام معلوم فما من حادث يحدثه الله فى العالم الاوقدوكل الله باجرآئه الملائكة ولكن بأمر هؤلاء الولاة من الملائكة فلا يزالون تحت سلطانهم اذ هم خصائص الله ثم ان العامة ما تشهد من هؤلاء الملائكة الا منازلهم التى هى اجرام الكواكب ولا تشهد اعيان الحجاب ولا النقباء واما اهل الكشف فيشهدونهم فى منازلهم عيانا.
ثم اعلم ان الله قد جعل فى هذ العالم العنصرى خلقا من جنسهم ولاة عليهم نظير العالم العلوى فمنهم الرسل والخلفاء والسلاطين والملوك وولاة امور جميع العالم من القضاة واضرابهم ثم جعل بين ارواح هؤلاء الولاة الذين هم فى الارض والولاة الذين هم فى السموات مناسبات ودقائق تمتد اليهم بالعدل مطهرة من الشوآئب مقدسة عن العيوب فيقبل هؤلاء الولاة الارضيون منهم بحسب استعدادتهم فمن كان استعداده حسنا قويا قبل ذلك الامر على صورته طاهرا مطهرا فكان والى عدل وامام فضل ومن كان استعداده رديئا قبل ذلك الامر الطاهر ورده الى شكله من الردآءة والقبح والجور فكان والى جور ونائب ظلم وبخل فلا يلومن الا نفسه فهذه امهات مراتب حكام العالم اصحاب المراتب على سبيل الاجمال واما الرعية فلا يحصى عددهم الا الله ولله تعالى فى الارض ملائكة لا يصعدون الى السماء أبدا وملائكة فى السماء لا ينزلون الى الارض أبدا كل قد علم صلاته وتسبيحه بالهام من الله تعالى كذا فى كتاب الجواهر للامام الشعرانىرحمه الله { وماهى } اى سقر وذكر صفتها { الا ذكرى للبشر } الا تذكرة وعظمة وانذار لهم بسوء عاقبة الكفر والضلال وتخصيص الانس مع انها تذكرة للجن ايضا لانهم هم الاصل فى القصد بالتذكرة او وما عدة الخزنة الا تذكرةلهم ليتذكروا ويعلموا ان الله قادر على ان يعذب الكثير الغير المحصور من كفار الثقلين وعصاتهم بهذا العدد بل هو لا يحتاج فى ذلك الى أعوان وانصار اصلا فانه لو قلب شعرة واحدة فى عين ابن آدم او سلط الألم على عرق واحد من عروق بدنه لكفاه ذلك بلاء ومحنة وانما عين العدد وخلق الجنود لحكمة لا لاحتياج ويجوز أن يعود الضمير الى الآيات الناطقة باحوال سقر فانها تذكرة لاشتمالها على الانذار.