التفاسير

< >
عرض

ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١١٢
-التوبة

روح البيان في تفسير القرآن

{ التائبون } قال الزجاج هو مبتدأ خبره مضمر. والمعنى التائبون الى آخر الآية من اهل الجنة كالمجاهدين فيما قبل هذه الآية فيكون الوعد بالجنة حاصلا للمجاهدين وغيرهم من المؤمنين وان لم يجاهدوا اذا كانوا غير معاندين ولا قاصدين لترك الجهاد والمراد التائبون عن الشرك والنفاق وكل معصية صغيرة كانت او كبيرة. وأصل التوبة الرجوع فإذا وصف بها العبد يراد بها الرجوع من العقوبة الى المغفرة والرحمة وهى واجبة على الفور ويتقدمها معرفة الذنب المرجوع عنه انه ذنب وعلامة قبولها اربعة اشياء. ان ينقطع عن الفاسقين. ويتصل بالصالحين بالتردد الى مجالسهم الشريفة اينما كانوا. وان يقبل على جميع الطاعات اذ الرجوع اذا صح من القلب ترى الاعضاء تنقاد لما خلقت له كالشجرة اذا صلح اصلها اثمر فرعها وان يذهب عنه فرح الدنيا اذ المقبل على الله لا يفرح بشئ مما سواه وكان عليه السلام متواصل الاحزان دائم الفكر. وان يرى نفسه فارغا عما ضمن الله له يعنى الرزق مشتغلا بما امر الله تعالى قال الله تعالى "يا ابن آدم خلقتك من تراب ثم من نطفة ولم يعينى خلقك من العدم أفيعيينى رغيف اسوقه لك فى حين وجودك" فاذا وجدت هذه العلامات وجب على الناس ان يحبوه فان الله قد احبه ويدعوا له ان يثبته الله على التوبة ولا يعيروه بذنوبه ويجالسوه ويكرموه وليحذر التائب من نقض العهد والرجوع الى المعصية [يحيى بن معاذ كفت يك كناه بعد از توبه قبيحترست هفتاد كناه ييش از توبه].
قال القشيرى قدس سره التائبون اصناف فمن راجع يرجع عن زلته الى طاعته ومن راجع يرجع عن شهود نفسه الى شهود لطفه ومن راجع يرجع عن الاحسان بنفسه وابناء جنسه الى الاستغراق بحقائق ربه { العابدون } الذين عبدوا الله تعالى مخلصين له

عبادت باخلاص نيت نكوست وكرنه جه آيد زبى مغز بوست

والعبادة عبارة عن الاتيان بفعل يشعر بتعظيم الله تعالى [كويند امام اعظمرحمه الله بيست سال بوضوء شب نمار روز كزارد وهركز بهلو برزمين ننهاد وجامه خواب نداشت وسر برهنه نشست وباى دراز نكرد] وفى الحديث "ان ابغض الخلق الى الله الصحيح الفارغ"
.وقال القشيرى قدس سره { العابدون } الخاضعون لله بكل وجه الذين لا يسترقهم كرائم الدنيا ولا يستعبدهم عظائم العقبى فلا يكون العبد عبد الله على الحقيقة الا بعد تجرده عن كل حادث { الحامدون } اى المثنون عليه بالاءه الشاكرون له على نعمائه المادحون له بصفاته واسمائه وعمم بعضهم الحمد فأوجبه على النعم الدينية والدنيوية وكذا على الشدائد والمصائب فى الدنيا فى اهل او نفس او مال لانها تحذف لانها عبارات متداخلة نعم بالحقيقة بدليل انها تعرض العبد لمثوبات جزيلة حتى ما يقاسيه الاطفال عند الموت من الكرب الشديد ترجع فائدته الى الولى الصابر وقد صح ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الحمد لله على ما ساء وسرّ"
. كما فى منهاج العابدين. ومما ينبغى ان يعلم ان التوفيق للتوحيد نعمة عظيمة من الله تعالى فليقل المؤمن دائما الحمد لله على دين الاسلام وتوفيق الايمان.
قال مجاهد فى تفسير قوله تعالى
{ { أليس الله باعلم بالشاكرين } [الأنعام: 53].
يعنى بالشاكرين على التوحيد فاذا عرفت هذا فلا يغرنك قول من قال ان نفس الدين وكذا الاسلام والايمان ليس بنعمة فكيف يحمد عليه.
وقال القشيرى { الحامدون } هم الذين لا اعتراض لهم على ما يحصل بقدرته ولا انقباض لهم عما يجب من طاعته { السائحون } عن ابن عباس رضى الله عنهما كل ما ذكر فى القرآن من السياحة فهو الصيام وفى الحديث
"سياحة امتى الصوم"
. قال الشاعر

تراه يصلى ليله ونهاره يظل كثير الذكر لله سائحا

اى صائما وشبه الصوم بالسياحة لانه عائق عن الشهوات كالسائح لا يتوسع فى استيفاء ما يميل اليه طبعه لان الصوم رياضة نفسانية يتوسل بها الى العثور على خفايا الملك والملكوت كما ان السائح يصل الى ما لم يعرفه ولم يره.
وقال بعض العرفاء النكتة ان السياح يسيح فى الارض فأى بلد استطاب المقام فيه اقام واذا لم يستطب خرج منه الى بلد آخر فكذا الصائم اذا دخل الجنة يقال له ادخل من أى باب شئت واى غرفة وقصر استطبتها فانزلها فيسيح فى قصور الجنة ومنازلها اين ما شاء كالسياح فى الارض.
وقال الحسن { السائحون } الذين صاموا عن الحلال وامسكوا عن الحرام وههنا والله اقوام رأيناهم يصومون عن الحلال ولا يمسكون عن الحرام والله ساخط عليهم.
وقال القشيرى هم الصائمون عن شهود غير الله المكتفون من الله بالله.
وقال فى التأويلات النجمية { السائحون } السائرون الى الله بترك ما شغلهم عنه.
وقال عطاء المراد الغزاة فى سبيل الله يقطعون المنازل والمراحل الى أن يصلوا الى ديار الكفرة فيجاهدوهم.
وقال عكرمة هم طلاب العلم ينتقلون من بلد الى بلد. ورحل جابر رضى الله عنه من المدينة الى مصر لحديث واحد ولذا لا يعد احد كاملا الا بعد رحلته ولا يصل الى مقصوده الا بعد هجرته وقالوا كل من لم يكن استاذ يصله بسلسلة الاتباع ويكشف عن قلبه القناع فهو فى هذا الشأن سبط لا اب له دعى لا نسب له { الراكعون الساجدون } فى الصلاة وانما كنى بالركوع والسجود عن الصلاة لكون جهة العيادة اظهر فيهما بالنسبة الى باقى اركان الصلاة فان هيئتى القيام والقعود قد يؤتى بهما على وفق العادة بخلاف الركوع والسجود فانهما ليسا من الهيآت الطبيعية الموافقة للعادة فلا يؤتى بهما الا على سبيل العبادة فكان لهما مزيدا اختصاص بالصلاة.
وقال القشيرى { الراكعون } الخاضعون لله فى جميع الاحوال بخمودهم تحت سلطان التجلى وفى الخبر
"ان الله اذا تجلى لشئ خضع له"
. و{ الساجدون } بنفوسهم فى الظاهر على بساط العبودية وبقلوبهم فى الباطن عند شهود الربوبية.
وقال فى التأويلات النجمية { الراكعون } الراجعون عن مقام القيام بوجودهم الى القيام بموجودهم { الساجدون } الساقطون عن هم على عتبة الوحدة بلاهم

جون تجلى كرد اوصاف قديم بس بسوزد وصف حادث را كليم

{ الآمرون بالمعروف } اى بالايمان والطاعة { والناهون عن المنكر } اى عن الشرك والمعاصى.
وقال الحدادى المعروف هو السنة والمنكر هو البدعة.
قال ابن ملك عند قوله عليه السلام
"وكل بدعة ضلالة"
. يعنى كل خصلة جديدة اتى بها ولم يفعلها النبى عليه السلام ضلالة لان الضلالة ترك الطريق المستقيم والذهاب الى غيره والطريق المستقيم الشريعة خص من هذا الحكم البدعة الحسنة كما قال عمر رضى الله عنه فى التراويح نعمت البدعة.
قال العلماء البدع خمس واجبة كنظم الدلائل لرد شبه الملاحدة وغيرهم. ومندوبة كتصنيف الكتب وبناء المدارس ونحوها. ومباحة كالبسط فى الوان الاطعمة وغيرها. ومكروهة. وحرام وهما ظاهران انتهى.
يقول الفقير البناء اما لدرس العلم الظاهر واما لتعليم علم الباطن فاذا كان بناء المدارس من البدعة الحسنة فليكن بناء الخانقاه منها ايضا بل بناء الخانقاه اشرف لشرف معلومة فمن قال انه ليس فى مكة والمدينة خانقاه فما هذه الخوانق فى البلاد الرومية. وغيرها ونهى عن الخانقاه والتردد اليه لجمعية الذكر واصلاح الحال بالخلوة والرياضة فانما قاله من جهله وحماقته ونهى عن ضلالته وشقاوته فهو ليس بآمر بالمعروف ولا ناه عن المنكر بل بالعكس كما لا يخفى ولقد كثر أمثال هذا المنكر الطاعن فى هذا الزمان مع انهم لا حجة لهم ولا برهان والله المستعان.
وقال القشيرى الآمرون والناهون هم الذين يدعون الخلق الى الله تعالى ويحذرونهم عن غير الله يتواصون بالاقبال على الله وترك الاشتغال بغير الله ثم انه انما تخللت الواو الجامعة بين الآمرون والناهون للدلالة على انهما فى حكم خصلة واحدة لا يعتبر احدهما بدون الآخر وعلى هذا فثامن الاوصاف هو قوله { والحافظون } وواوه واو الثمانية وقيل الصفة الثامنة هى قوله { والناهون } وواوه واو الثمانية وذلك ان العرب اذا ذكروا اسماء العدد على سبيل التعداد يقولون واحد اثنان ثلاثة اربعة خمسة ستة سبعة ثم يدخلون الواو على الثمانية ويقولون وثمانية تسعة عشرة للايذان بان الاعداد قد تمت بالسابع من حيث ان السبعة هو العدد التام وان الثامن ابتداء تعداد آخر.
قال القرطبى هى لغة فصيحة لبعض العرب وعليها قوله
{ { ثيبات وأبكارا } [التحريم: 5].
وقوله
{ { وثامنهم كلبهم } [الكهف: 22].
وقوله
{ { وفتحت ابوابها } } [الزمر: 73].
لان ابواب الجنة ثمانية واليه ذهب الحريرى فى درة الغواص وغيره من العلماء.
وقال النسفى فى تفسيره المسمى بالتيسير لا اصل لهذا القول عند المحققين فليس فى هذا العدد ما يوجب ذلك والاستعمال على الاطراد كذلك قال الله تعالى
{ { الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر } [الحشر: 23].
بغير واو وقال تعالى
{ { ولا تطع كل حلاف مهين } [القلم: 10] الآية
بغير واو فى الثامنة { والحافظون لحدود الله } اى فيما بينه وعينه من الحقائق والشرائع عملا وحملا للناس عليه
وقال القشيرى هم الواقفون حيث وقفهم الله الذين يتحركون اذا حركهم ويسكنون اذا سكنهم ويحفظون مع الله انفاسهم.
ثم انه لما كانت التكاليف الشرعية غير منحصرة فيما ذكر بل لها اصناف واقسام كثيرة لا يمكن تفصيلها وتثبيتها الا فى مجلدات.
ذكر الله تعالى سائر اقسام التكاليف على سبيل الاجمال بقوله { والحافظون لحدود الله } والفقهاء ظنوا ان الذى ذكروه فى بيان التكاليف واف ليس كذلك لان الافعال المكلفين قسمان افعال الجوارح وافعال القلوب وكتب الفقه مشتملة على شرح اقسام التكاليف المتعلقة باعمال الجوارح. واما التكاليف المتعلقة باعمال القلوب فليس فى كتبهم منها الا قليل نادر وبعض مباحثها مدون فى الكتب الكلامية والبعض الآخر منها فصله الامام الغزالى وامثاله فى علم الاخلاق ومجموعها مندرج فى قوله تعالى { والحافظون لحدود الله } [شيخ احمد غزالى ببرادرش امام محمد غزالى كفت جمله علم ترابدو كلمه آورده ام التعظيم لامر الله والشفقة على خلق الله].
قال الحدادى وهذه الصفة من اتم ما يكون من المبالغة فى وصف العباد بطاعة الله والقيام باوامره والانتهاء عن زواجره لان الله تعالى بين حدوده فى الامر والنهى وفيما ندب اليه فرغب اليه او خير فيه وبين ما هو الاولى فى مجرى موافقة الله تعالى فاذا قام العبد بفرائض الله تعالى وانتهى الى ما اراد الله منه كان من الحافظين لحدود الله كما روى عن خلف بن ايوب انه امر امرأته ان تمسك عن ارضاع ولده فى بعض الليل وقال قد تمت له السنتان فقيل له لو تركتها حتى ترضعه هذه الليلة قال فاين قوله تعالى { والحافظون لحدود الله } { وبشر المؤمنين } يعنى هؤلاء الموصوفين بتلك الفضائل. ووضع المؤمنين موضع ضميرهم للتنبيه على ان ايمانهم دعاهم الى ذلك وان المؤمن الكامل كان كذلك وحذف المبشر به للتعظيم كأنه قيل وبشرهم بما يجل عن احاطة الافهام وتعبير الكلام واعلى ذلك رؤية الله تعالى فى دار السلام. واعلم ان كل عمل له جزاء مخصوص يناسبه كالصوم مثلا جزاؤه الاكل والشرب كما قال تعالى
{ { كلوا واشربوا هنيئا بما اسلفتم فى الايام الخالية } [الحاقة: 24].
وقس على هذا باقى الاعمال واجتهد فى تحصيل الحال وفقنا الله واياكم الى اسباب مرضاته