التفاسير

< >
عرض

وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ
١٢٢
-التوبة

روح البيان في تفسير القرآن

{ وما كان المؤمنون لينفروا كافة } اللام لتأكيد النفى اى ما صح وما استقام لهم ان ينفروا اى يخرجوا جميعا لنحو غزو او طلب علم كما لا يستقيم لهم ان يتثبطوا جميعا فان ذلك مخل بامر المعاش { فلولا نفر } [بس جرا بيرون نرود] فلولا تحضيضية مثل هلا وحرف التحصيص اذا دخل على الماضى يفيد التوبيخ على ترك الفعل والتوبيخ انما يكون على ترك الواجب فعلم منه ان الفعل واجب وان قوله فلولا نفر معناه الامر بالنفير وايجابه { من كل فرقة منهم طائفة } اى من كل جماعة كثيرة كقبيلة واهل بلدة جماعة قليلة.
ودلت الآية على الفرق بين الفرقة والطائفة بان الفرقة اكثر من الطائفة لان القياس ان ينتزع القليل من الكثير والطائفة تتناول الواحد فما فوقه { ليتفقهوا فى الدين } ليتكلفوا الفقاهة فى الدين ويتجشموا مشاق تحصيلها والفقه معرفة أحكام الدين { ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم } وليجعلوا غاية سعيهم ومعظم غرضهم من الفقاهة ارشاد القوم وانذارهم وذكر الانذار دون التبشير لانه اهم والتخلية بالمعجمة اقدم من التحلية بالمهملة { لعلهم يحذرون } ارادة ان يحذر قومهم عما ينذرون منه.
وفى الآية دليل على ان التفقه والتذكير من فروض الكفاية وانه ينبغى ان يكون غرض المتعلم الاستقامة والاقامة لا الترفع على الناس بالتصدر والترأس والتبسط فى البلاد بالملابس والمراكب والعبيد والاماء كما هو ديدن ابناء الزمان والله المستعان. فينبغى ان يطلب المتعلم رضى الله والدار الآخرة وازالة الجهل عن نفسه وعن سائر الجهال واحياء الدين وابقاء الاسلام فان بقاء الاسلام بالعلم ةلا يصح الزهد والتقوى بالجهل

علم آمد دليل آكاهى جهل برهان نقض وكمراهى
بيش ارباب دانش وعرفان كى بود اين تمام وآن نقصان

وينبغى لطالب العلم ان ينوى به الشكر على نعمة العقل وصحة البدن وسلامة الحواس عملا بقوله تعالى { { والله اخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون } [النحل: 78].
وينبغى لطالب العلم ان يختار الاستاذ الاعلم والاروع والاسن بعد التامل التام كما اختار ابو حنيفة رضى الله عنه حماد قال دخلت البصرة فظننت ان لا اسال عن شيء الا اجبت عنه فسالونى عن اشياء لم يكن عندى جوابها فحلفت على نفسى ان لا افارق حمادا فصحبته عشرين سنة وما صليت قط الا ودعوت لشيخى حماد مع والدى ففى انفاس الاساتذة الصالحين ودعوات الرجال الكاملين تاثيرات عجيبة -كما حكى- ان ابا ابى حنيفة ثابتا اهدى الفالوذج لعلى بن ابى طالب يوم النيروز ويوم المهرجان فدعا له ولاولاده بالبركة وكان ثابت يقول انا فى بركة دعوة صدرت من على رضى الله عنه حتى كان يفتخر اولاده العلماء بذلك فاذا وجد الطالب الاستاذ العالم العامل فعليه ان يختار من كل علم احسنه وانفعه فى الآخرة فيبدأ بفرض العين وهو علم ما يجب من اعتقاد وفعل وترك ظاهرا وباطنا ويقال له عن علم الحال الا العلم المحتاج اليه فى الحال.
قال العز بن عبد السلام العلم الذى هو فرض لازم ثلاثة انواع. الاول علم التوحيد فالذى يتعين عليك منه مقدار ما تعرف به اصول الدين فيجب عليك اولا ان تعرف المعبود ثم تعبده وكيف تعبد من لا تعرفه باسمائه وصفات ذاته وما يجب له وما يستحيل فى نعته فربما تعتقد شيئاً فى صفاته يخالف الحق فتكون عبادتك هباء منثورا. والنوع الثانى علم السر وهو ما يتعلق بالقلب ومساعيه فيفترض على المؤمن علم احوال القلب من التوكل والانابة والخشية والرضى فانه واقع فى جميع الاحوال واجتناب الحرص والغضب والكبر والحسد والعجب والرياء وغير ذلك وهو المراد بقوله عليه السلام
"طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة"
. اذ لو اريد بالعلم فيه التوحيد فهو حاصل ولو اريد به الصلاة فيجوز ان يتأهلها شخص وقت الضحى ويموت قبل الظهر فلا يستقيم العموم والمستفاد من لفظ كل واما غيرهما فلا يظهر فلم يبق الا المعاملة القلبية اذ فرضية علمها متحققة فى كل زمان ومكان فى كل شخص. والنوع الثالث علم الشريعة وهو ما يجب عليك فعله من الواجبات الشرعية فيجب عليك علمه لتؤديه على جهة الشرع كما امرت به وكذا علم كل ما يلزمك تركه من المناهى الشرعية لتتركه وذلك شامل للعبادات والمعاملات فكل من اشتغل بالبيع والشراء وايضا بالحرفة فيجب عليه علم التحرز عن الحرام فى معاملاته وفما يكسبه فى حرفته واما حفظ ما يقع فى بعض الاحايين ففرض على سبيل الكفاية. والعلوم الشرعية خمسه الكلام والتفسير والحديث والفقه واصول الفقه
قال فى عين المعانى المراد بقوله { ليتفقهوا فى الدين } علم الآخرة لاختصاصه بالانذار والحذر به وعلم الآخرة يشمل علم المعاملة وعلم المكاشفة اما علم المعاملة فهو العلم المقرب اليه تعالى والمبعد عنه ويدخل فيه اعمال الجوارح واعمال القلوب واما علم المكاشفة فهو المراد فيما ورد
"فضل العالم على العابد كفضلى على امتّى"
. اذ غيره تبع للعمل لثبوته شرطا له فاذا فرغ علما وعملا ساغ ان يشرع فى فروض الكفاية كالتفسير والاخبار والفتاوى غير متجاوز الى نوادر المسائل ولا مستغرق مشتغل عن المقصود وهو العمل ويجوز ان يتعلم من علم النجوم قدر ما يعرف به القبلة واوقات الصلاة ويتعلم من علم الطب قدر ما يمكن بمعرفته تداوى الامراض.
قال فى الاشباه تعلم العلم يكون فرض عين وهو بقدر ما يحتاج اليه لدينه وفرض كفاية وهو ما زاد عليه لنفع غيره ومندوبا وهو التبحر فى الفقه وعلم القلب وحراما وهو علم الفلسفة والشعبذة والتنجيم والرمل وعلوم الطبائعيين والسحر ودخل فى افلسفة المنطق ومن هذا القسم علم الحروف والموسيقى ومكروها وهو اشعار المولدين من الغزل والبطالة ومباحا كاشعارهم التى لا سخف فيها.
قال الخناوى لم ار فى كتب اصحابنا القول بتحريم المنطق ولا يبعد ان يكون وجهه ان يضيع العمر وايضا من اشتغل به يميل الى الفلسفة غالبا فكان المنع منه من قبيل سد الذرائع والا فليس فى المنطق ما ينافى الشرع انتهى.
قال القهستانى ذكر فى المهمات للاسنوى لا يستنجى بما كتب عليه علم محترم كالنحو واحترز بالمحترم من غيره من الحكميات مثل المنطق انتهى.
قال حضرة الشيخ الاكبر قدس سره الاطهر فى مواقع النجوم ولا يكثر مما لا يحتاج اليه فان التكثير مما لا حاجة فيه سبب فى تضييع الوقت على ما هو اهم وذلك ان من لم يعول على ان يلقى نفسه فى درجة الفتيا فى الدين لان فى البلد من ينوب عنه فى ذلك لا يتعين عليه طلب الاحكام كلها اذ هو فى حق الغير طلب فضول العلم انتهى.
فعلى العاقل ان يتعلم قدر الحاجة ويشتغل بالعمل وفى الحديث
"من احب ان ينظر الى عتقاء الله من النار فلينظر الى المتعلمين فوالذى نفسى بيده ما من متعلم يختلف الى باب العالم الا كتب له بكل قدم عبادة سنة وبنى له بكل قدم مدينة فى الجنة ويمشى على الارض والارض تستغفر له ويمشى ويصبح مغفورا له وشهدت له الملائكة بانه من عتقاء الله من النار"
. وفى نشر العلم والارشاد به فضائل ايضا "قال عليه السلام لمعاذ بن جبل رضى الله عنه حين بعثه الى اليمن لان يهدى الله بك رجلا خير لك مما تطلع عليه الشمس" .
والعلماء ورثة الانبياء فكما انهم اشتغلوا بالابلاغ والارشاد كذلك ورثتهم فكل مرشد من الورثة ينبغى ان يكون غرضه اقامة جاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه بتكثير اتباعه وقد قال "انى مكاثر بكم الامم"
. قال فى العوارف الصوفية أخذوا حظا من علم الدراسة فافادهم علم الدراسة العمل بالعلم فلما عملوا بما علموا افادهم العمل علم الوراثة فهم مع سائر العلماء فى علومهم وتميزوا عنهم بعلوم زائدة هى علوم الوراثة وعلم الوراثة هو الفقه فى الدين قال الله تعالى { فلولا نفر } الآية فصار الفقه فى الدين من اكمل الرتب واعلاها هو علم العالم الزاهد فى الدنيا المتقى الذى يبلغ رتبة الانذار بعلمه فمورد الهدى والعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم اولا ورد عليه الهدى والعلم من الله تعالى فارتوى بذلك ظاهرا وباطنا وانتقل من قلبه الى القلوب ومن نفسه الى النفوس ولا يدرك المرء هذا العلم بالتمنى بل بالجد والطلب ألا ترى الى الجنيد قيل له بم نلت ما نلت فقال بجلوسى تحت تلك الدرجة ثلاثين سنة واشار الى درجة فى داره

هركنج سعادت كه خداداد بحافظ ازيمن دعاى شب وورد سحرى بود

.وفى الآية تحريض للمؤمنين على الخروج من الاوطان لطلب العلم النافع ورحل جابر من المدينة الى مصر لحديث واحد ولذا لم يعد احد كاملا الا بعد رحلته ولا وصل مقصده الا بعد هجرته وقيل

سافر تجد عوضا عمن تفارقه وانصب فان اكتساب المجد فى النصب
فالاسد لولا فراق الخيس ما فرست والسهم لولا فراق القوس لم يصب

قال سعدى قدس سره

جفا نبرده جه دانى توقدر يار تحصيل كام دل بتكابوى خوشترست

.قال فى التأويلات النجمية الاشارة فى الآية ان الله تعالى يندب خواص عباده الى رحلة الصورة والمعنى فاما رحلة الصورة ففى طلب اهل الكمال الكاملين المتكملين الواصلين الموصلين كما ندب موسى الرحلة فى طلب الخضر عليه السلام واما رحلة المعنى فكما كان حال ابراهيم عليه السلام قال انى ذاهب الى ربى فهو السير من القالب وصفاته الى القلب وصفاته ومن القلب الى الروح وصفاته من الروح الى التخلق باخلاق الله بقدم فناء اوصافه وهو السير الى الله ومن اخلاق الله الى ذات الله يقدم فناء ذاته يتجلى صفات الله وهو السير بالله ومن انانيته الى هويته ومن هويته الى الوهيته الى ابد الآباد وهو السير بالله من الله الى الله تعالى وتقدس انتهى باختصار