التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ٱئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـٰذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِيۤ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىۤ إِلَيَّ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
١٥
قُل لَّوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
١٦
-يونس

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جل جلاله: { وإذا تُتلى عليهم } يعني كفار قريش { آياتُنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا } من المشركين { ائْتِ بقرآن غيرِ هذا } أي: بكتاب آخر ليس فيه ما نستبعده من البعث والحساب، والعقاب بعد الموت، أو ما ذكره من سب آلهتنا، وعيب ديننا، أو اجعل هذا الكلام الذي من قِبَلك على اختيارنا، فأحل ما حرمته، وحرم ما أحللته؛ ليكون أمرنا واحداً وكلمتنا متصلة، { أوبدِّلْه } بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى.
{ قل } لهم يا محمد: { ما يكون }: ما يصح { لي أن أبدِّله من تلقاء نفسي }: من قِبل نفسي، وإنما اكتفى بالجواب المذكور عن التبديل؛ لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر، قل لهم: { إنْ } أي: ما { أتبعُ إلا ما يوحى إليَّ }، لا أقدر أن أقول شيئاً من عندي. قال البيضاوي: هو تعليل لما يكون، فإن المتبع لغيره في أمر لم يستبد بالتصرف فيه بوجه، وجواب للنقض بنسخ بعض الآيات لبعض، ورد لما عَرّضوا له بهذا السؤال من أن القرآن كلامه واختراعُه، ولذلك قيد التبديل في الجواب وسماه عصياناً فقال: { إني أخاف إن عصيتُ ربي عذاب يوم عظيم } يوم القيامة، وفيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح. هـ.
{ قل لو شاءَ اللهُ ما } أرسلني إليكم، ولا { تلوتُه عليكم ولا أدْرَاكم } أي: أعلمكم { به } على لساني. وفي قراءة ابن كثير: ولأدراكم، بلام التأكيد، أي: لو شاء الله ما تلوته عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري.
والمعنى أنه الحق لا شك فيه، لو لم أُرْسَل به أنا لأرسل به غيري. وحاصل المعنى: أن الأمر بمشيئة الله لا بمشيئتي، حتى أجعله على نحو ما تشتهون. ثم قرر ذلك بقوله: { فقدْ لبثتُ فيكم عُمُراً } منذ أربعين سنة { مِن قبله } أي: من قبل نزول هذا القرآن، لا أتلوه ولا أعلم منه شيئاً، وفيه إشارة إلى القرآن معجز خارق للعادة، فأن من عاش بين أظهرهم أربعين سنة لم يدرس فيها علماً، ولا يشاهد عالِماً، ولم ينشد قريضاً ـ أي: شعراً ـ ولا خطبة، ثم قرأ عليهم كتاباً أعجزت فصاحتُه كل منطيق، وفاق كل منظوم ومنثور، واحتوى على قواعد عِلْمي الأصول والفروع، وأعرب عن أَقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين على ما هي عليه، عُلم انه معلم به من عند الله. قاله البيضاوي.
فكل من له عقل سليم أدرك حقِّيته، ولذلك قرعهم بقوله: { أفلا تعقلون } أي: أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر، فتعلموا أنه ليس من طوْق البشر، بل هو من عند الحكيم العليم الواحد القهار.
الإشارة: إذا ظهر أهل التربية الداعون إلى الله بطريق صعبة على النفوس، يُسيرون الناس عليها، كخرق العوائد وتخريب الظواهر والتجريد، قال من لا يرجو الوصول إلى الله ـ لغلبة الهوى عليه: ائتونا بطريق غير هذا لنتبعكم عليه، يكون سهلاً على النفوس، موافقاً لعوائدنا، أو بدلوا هذا بطريق أسهل، وأما هذا الذي أتيتم به، فلا نقدر عليه، وربما رموه بالبدعة، فيقولون لهم: ما يكون لنا أن نبدله من تلقاء أنفسنا، إن نتبع إلا ما سلك عليه أشياخنا وأشياخهم، فما ربَّوْنا به نُربّي به من تبعنا، فإن خالفنا طريقهم خفنا من عقاب الله، حيث غششنا من اتبعنا، ولقد مكثنا معكم قبل صحبة أشياخنا سنين، فلم تروا علينا شيئاً من ذلك حتى صحبناهم، فدل ذلك على أنه موروث عن أشياخهم وأشياخ أشياخهم، أفلا تعقلون؟.
ثم سجل الظلم على من كذَب أو كذّب، فقال: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً }.