التفاسير

< >
عرض

وَمَا كَانَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٣٧
أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٣٨
بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلظَّالِمِينَ
٣٩
وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِٱلْمُفْسِدِينَ
٤٠
-يونس

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: "تصديق": مصدر، والعامل فيه "كان" محذوفة، أو "أنزل"، و"لا ريب": خبر ثالث لها، و"من رب العالمين": خبر آخر، أي: كائناً من رب العالمين، أو متعلق بتصديق أو بتفصيل، و"لا ريب": اعتراض، أو بالفعل المعلل بهما ـ وهو "نزل" ـ ويجوز أن يكون حالاً من "الكتاب"، أو من الضمير في "فيه"،: و"أم": منقطعة بمعنى بل مع الاستفهام الإنكاري، و"كيف" خبر كان.
يقول الحق جل جلاله: { وما كان هذا القرآنُ أن يفترى من دون الله } أي: صح له أن يفترى من الخلق، إذ لا قدرة له على ذلك، { ولكن } كان { تصديقَ الذي بين يديه } من الكتب، أو: ولكن أنزله تصديقاً لما سلف قبله من الكتب الإلهية، المشهود على صدقها؛ لأنه مطابق لها، فلا يكون كذباً، كيف وهو لكونه معجزاً عيار عليها، شاهد على صحتها؟ { وتفصيلَ الكتاب } أي: وأنزله تفصيلَ ما حقق وأثبت من العقائد والشرائع، التي تضمنها الكتاب، { لا ريبَ فيه }: لا ينبغي أن يرتاب فيه؛ لما احتفّت به من شواهد الحق، وارتياب الكفار فيه كلا ريب. كائناً { من رب العالمين }، أول نزل منه.
{ أم }: بل { يقولون افتراه } محمد من عند نفسه؟ { قل فأتُوا } أنتم { بسورةٍ مثله } في البلاغة وحسن النظم، وجودة المعنى، فإنكم مثلي في العربية والفصاحة، { وادعوا من استطعتم }: مَنْ قدرتم عليه من الجن والإنس، يُعينكم على ذلك، { من دون الله } فإنه وحده قادر على ذلك، { إن كنتم صادقين } أنه مفترىً.
{ بل كذّبوا } أي: سارعوا إلى التكذيب { بما لم يُحيطُوا بعلمه } وهو القرآن، بحيث لم يستمعوه، ولم يتدبروا آياته ويحيطوا بالعلم بشأنه، حتى يعلموا أحق هو أم لا، أو بما جهلوه ولم يحيطوا به علماً، من ذكر البعث والجزاء، وسائر ما يخالف دينهم، { ولمَّا يأتهم تأويلُهُ } أي: ولم يقفوا بعدُ على تأويله، ولم تبلغ أذهانهم معانيه، أو لم يأتهم بعدُ تأويلُ ما فيه من الإخبار بالغيوب، حتى يتبين لهم أنه صدق أو كذب، والمعنى: أن القرآن معجز من جهة اللفظ والمعنى، ثم إنهم فاجئوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه، ويتصفحوا معناه.
ومعنى التَّوقع في { لمَّا }: أنه قد ظهر بالآخرة إعجازه؛ لمّا كرر عليهم التحدَّي؛ فزادوا أذْهانهم في معارضته؛ فتضاءلت دونها، أو لمّا شاهدوا وقوع ما أخبر به طبق ما أخبر مراراً فلم يقلعوا عن التكذيب تمرداً وعناداً. قاله البيضاوي. قال ابن جزي: لمَّا يأتهم ما فيه من الوعيد لهم، أي: وسيأتيهم يوم القيامة أو قبله. { كذلك كذَّب الذين من قبلهم } أنبياءهم، { فانظر كيف كان عاقبةُ الظالمين }، فيه وعيد لهم بمثل ما عوقب به من قبلهم.
{ ومنهم } من المكذبين { من يؤمن به } أي: يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق ولكن يعاند، أو مَن يؤمن به ويتوب عن كفره، { ومنهم من لا يؤمن به } في نفسه لفرط غباوته وقلة تدبره، أو لا يؤمن فيما يستقبل فيموت على كفره، { وربك أعلم بالمفسدين }: بالمعاندين أو المصرين.
الإشارة: إذا تطهرت القلوب من الأغيار، وتصفّتْ من الأكدار، أوحى إليها بدقائق العلوم والأسرار، وما كان لتلك العلوم أن تُفترى من دون الله؛ ولكن تكون تصديقاً لما قبلها من علوم القوم وأسرارها، التي يهبها الله لأوليائه، وفيها تفصيل طريق السير، وما أوجبه الله على المريدين من الآداب، وشروط المعاملة، فمن طعن في ذلك فليأت بشيء من ذلك من عند نفسه، ويستعنْ على ذلك بأبناء جنسه، بل كذَّب بما لم يُحط به علمُه، ولم يبلغه عقلُه وفهمُه، فإن كشفت عند الله الحقائق ظهر تأويل ما ينطق به أهل الحقائق، ومن الناس من يؤمن بهذه الأسرار، ومنهم من لا يؤمن بها ويطعن على أهلها، حتى ربما رموهم بالزندقة لأجلها، وربك أعلم بالمفسدين.
ثم أمر نبيه بالبراءة ممن كذبه، فقال: { وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ }.