قلت: (وإنَّ وعدك): عطف على (إن ابني). و(أنت أحكم): حال من الكاف. و(إني أعظك): مفعول من أجله، أي: كراهية أن تكون من الجاهلين.
يقول الحق جل جلاله: {ونادى نوحٌ ربَّه} بعد تعميم الغرق، أي: أراد النداء بدليل عطف قوله: {فقال ربِّ إنَّ ابني من أهلي}، فإنه هو النداء، أو تكون فصيحة، جواباً عن مقدر، كأن قائلاً قال: ماذا في ندائه؟ فقال: إن ابني من أهلي وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي، {وإن وعَدَكَ الحقُّ} لا يتطرقه الخلف، فما باله غرِق؟ {وأنت أحكمُ الحاكمين}؛ لأنك أعلمهم وأعدلهم، فلم أعرف وجه حكمك عليه بالغرق. أو لأنك أكثر حكمة من ذوي الحكم، فلم أفهم حكمة غرقه.
{قال} تعالى: {يا نوح إنه ليس من أهلك}؛ لأنه خالفك في الدين، ولا ولاية بين الكافر والمؤمن، {إنه عملٌ غير صالح} أي: ذو عمل فاسد. جعل ذاته نفس العمل؛ مبالغةً. وقرأ الكسائي ويعقوب: (عَمِلَ) بلفظ الماضي. أي: عمل عملاً فاسداً. استحق به البعد عنك. أو: إنه ـ أي سؤالك ـ عملٌ غير صالح. ويقوي هذا قراءة ابن مسعود: "إنه عمل غير صالح أن تسألني ما ليس لك به علم، وقراءة الجماعة: {فلا تسألن ما ليس لك به علمٌ} أصواب هو أم لا، حتى تقف على كنهه. وإنما سمي نداءه سؤالاً؛ لتضمنه معنى السؤال، بذكر الوعد واستنجازه واستفسار المانع.
ثم وعظه بقوله: {إني أعظُكَ أن تكون من الجاهلين} أي: إني أعظك؛ كراهة أن تكون من الجاهلين الذين يسألون ما لا يوافق القدر. وقد استثنيته بقولي: {إلا من سبق عليه القول}. وليس فيه وصفه بالجهل، بل وعظه لئلا يقع فيه، والحامل له على السؤال، مع أنه استثنى له؛ غلبة الشفقة على الولد؛ مع كونه لم يتحقق أنه ممن سبق عليه القول.
{قال} نوح: يا {رب إني أعوذُ بك أن أسألكَ} في المستقبل {ما ليس لي به علمٌ}؛ ما لا علم لي بصحته. {وإلا تغفرْ لي} ما فرط مني من السؤال، {وترحمني} بالتوبة، تفضلاً وإحساناً، وبالتوفيق والعصمة في المستقبل، {أَكُن مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ} بسوء أدبي معك.
الإشارة: قال الورتجبي: أدَّب نبيه نوحاً عليه السلام بأن لا يسأل إلا ما وافق القدر. كل دعاء لم يوافق مراده تعالى في سابق علمه لم يؤثر في مراد الداعي. وقوله: {إنه عمل غير صالح} أي: ليس عمله على موافقة السنة، ثم وعظه، وقال: {إني أعظك أن تكون من الجاهلين}، الجاهل: من جهل قدر الله، أي: أنزهك عن سوء الأدب في السؤال، على غير قاعدة مرادك. هـ. وقال في الحكم: "ليس الشأن وجوب الطلب، وإنما الشأن أن ترزق حسن الأدب".
ثم أمره بالنزول إلى الأرض من السفينة، فقال: {قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا}.