التفاسير

< >
عرض

وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيۤءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ
٧٧
وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ قَالَ يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ
٧٨
قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ
٧٩
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِيۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ
٨٠
قَالُواْ يٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوۤاْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلْلَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ أَلَيْسَ ٱلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ
٨١
فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ
٨٢
مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ
٨٣
-هود

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: (سيء): مبني للمفعول، صلة: سَوِئ، نُقلت حركة الواو إلى السين بعد ذهاب حركتها، ثم قلبت الولو ياء. و(ذرعاً): تمييز محول عن الفاعل، أي: ضاق ذرعه، وهو كناية عن شدة الانقباض عن مدافعة الأمر المكروه، وعجزه عن مقاومته. و(لو أن لي بكم قوة): إما للتمني فلا جواب له، أو محذوف، أي: لدفعت.
وفي(أَسْرَ) لغتان: قطع الهمزة من الإسراء، ووصلها من السُّرى، وقرئ بهما معاً، و(إلا امرأتك) الرفع؛ بدل من (أحد)، وبالنصب؛ منصوب بالاستثناء من (فأسر بأهلك). ومنشأ القراءتين: هل أخرجها معه، فالتفتت أم لا؟ فمن رفع ذهب إلى أنه أخرجها. ومن نصب ذهب إلى أنه لم يسر بها، وهما روايتان.
يقول الحق جلاله: { ولما جاءت رسلُنا }، وهم الملائكة المتقدمون، { لوطاً سِيءَ بهم } ساءه مجيئهم؛ لأنهم أتوه في صورة غلمان حسان الوجوه، فظن أنهم بشر، فخاف عليهم من قومه أن يقصدوهم للفاحشة، ولا يقدر على مدافعتهم، { وضاقَ بهم ذرعاً } أي: ضاق صدره بهم، { وقال هذا يومٌ عصيبٌ }: شديد من عصبه: إذا شده، ورُوي أن الله تعالى قال لهم: لا تهلكوا قومه حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما مشى معهم منطلقاً بهم إلى منزله، قال لهم: أما بلغكم أمر هذه القرية؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله أنها شرُّ قرية في الأرض عملاً. قال ذلك أربع مرات. فدخلوا منزله، ولم يعلم بذلك أحد، فخرجت امرأته فأخبرتهم، { وجاءه قومُه يُهرَعُون }؛ يُسرعون { إليه } كأنهم يُدفعون إليه دفعاً، لطلب الفاحشة من أضيافه. { ومن قبل } ذلك الوقت { كانوا يعملون السيئات }؛ الفواحش، كاللواطة، وغيرها، مستمرين عليها مجاهرين بها، حتى لم يستحيوا وجاؤوا يهرعون إليها.
{ قال يا قوم هؤلاء بناتي } تزوجوهن، وكانوا يطلبونهن قبل، فلا يجيبهم لخبثهم، وعدم كفاءتهم، لا لحرمة المسلمات على الكفار، فإنه شرع طارئ؛ قال ابن جزي: وإنما قال لهم ذلك؛ ليقي أضيافه ببناته. قيل: إن اسم بناته، الواحدة: ريثا، والأخرى: غوثاً. هـ. ولم يذكر الثالثة، فعرضهن عليهم، وقال: { هنَّ أطهرُ لكم }؛ أحل لكم، أو أقل فحشاً، كقولك: الميتة أطيب من المغضوب، { فاتقوا الله } بترك الفواحش، { ولا تُحزون }؛ لا تفضحوني { في ضيفي }؛ في شأنهم، فإن افتضاح ضيف الرجل خزي له. { أليس منكم رجلٌ رشيدٌ }؛ عاقل يهتدي إلى الحق ويرعوي عن القبيح.
{ قالوا لقدْ علمتَ ما لنا من بناتك من حقٍّ }؛ من حاجة، { وإنك لتعلم ما نُريد } وهو إتيان الذكران، { قال لو أن لي }؛ ليت لي { بكم قوةً } طاقة على دفعكم بنفسي، { أو آوي إلى ركن شديد }؛ أو ألجأ إلى أصحاب أو عشيرةٍ يحمونَني منكم، شبه ما يتمتع بهم بركن الجبل في شدته، قال صلى الله عليه وسلم:
"رَحِمَ اللَّهُ أَخي لُوطاً لقد كَانَ يأوي إِلى رُكنٍ شَديدٍ" يعني: الله تعالى.
رُوي أنه أغلق بابه دون أضيافه، وأخذ يجادلهم من وراء الباب، فتسوروا الجدار، فلما رأت الملائكة ما على لوط من الكرب، { قالوا يا لوطُ إنا رُسلُ ربك لن يصلُوا إليك }: لن يصلوا إلى إضرارك بإضرارنا، فهون عليك ودَعْنا وإياهم. فخلاهم، فلما دخلوا ضرب. جبريل عليه السلام بجناحيه وجوههم، فطمس أعينهم، وأعمالهم، فخرجوا يقولون: النجاء؛ النجاء في بيت لوط سحرة، فقالت الملائكة للوط عليه السلام: { فأسرٍ بأهلك }؛ سِر بهم { بقطع من الليل }: بطائفة منه، { ولا يلتفت منكم أحدٌ }: لا يتخلف، أو لا ينظر إلى ورائة؛ لئلا يرى ما يهوله. والنهي في المعنى يتوجه إلى لوط، وإن كان في اللفظ مسنداً إلى أحد.
{ إلا امرأتك }، اسمها: واهلة، أي: فلا تسر بها، أو: ولا ينظر أحد منكم إلى ورائه إلا امرأتك؛ فإنها تنظر. رُوي أنها خرجت معه، فلما سمعت صوات العذاب التفتت وقالت: يا قوماه؛ فأدركها حجر فقتلها، ولذلك قال: { أنه مُصيبُها ما أصابهم } من العذاب، { إن موعدَهُم } وقت { الصُّبحُ } في نزول العذاب بهم، فاستبطأ لوط وقتَ الصبح، وقال: هلا عُذبوا الأن؟ فقالوا: { أليس الصبح بقريب }.
{ فلما جاء أمرنا }؛ عذابنا، أو أمرنا به، { جعلنا } مدائنهم { عاليَها سافلَها }، رُوي أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت مدائنهم، ورفعها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب، وصياح الديكة، ثم قلبها بهم.
{ وأمطرنا عليهم }؛ على المدائن، أي: أهلها، أو على ما حولها. رُوي أنه من كان منهم خارجَ المدائن أصابته الحجارة من السماء، وأما من كان في المدائن، فهلك لمّا قلبت. فأرسلنا عليهم: { حجارة من سجيل }: من طين طبخ بالنار، أو من طين متحجر كقوله:
{ { حِجَارَةً مِّن طِينٍ } [الذاريات: 33]، وأصلها: سنكِين، ثم عرب، وقيل: إنه من أسجله إذا أرسله، أي: من مثل الشيء المرسل، وقيل: أصله من سجين، أي جهنم، ثم أبدلت نونه لاماً، { منضود }: مضموم بعضه فوق بعض، معداً لعذابهم، أو متتابع يتبع بعضه بعضاً في الإرسال، كقطر الأمطار.
{ مُسَوّمةً } أي: معلمة للعذاب، وقيل: معلمة ببياض وحمرة، أو بسيما تتميز به عن حجارة الأرض، أو باسم من يرمي به؛ فكل حجارة كان فيها اسم من ترمى به، وقوله: { عند ربك }، أي: في خزائن علمه وقدرته، { وما هي من الظالمين ببعيد } بل هي قريبة من كل ظالم.
قال ابن جزي: الضمير للحجارة، والمراد بالظالمين: كفار قريش، فهذا تهديد لهم، أي: ليس الرمي بالحجارة ببعيد منهم؛ لأجل كفرهم، وقيل: الضمير للمدائن، أي: ليس مدائنهم ببعيد منهم؛ أفلا يعتبرون بها. كقوله:
{ { وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِيۤ أُمْطِرَتْ مَطَرَ ٱلسَّوْءِ } [الفرقان: 40]. وقيل: الظالمين على العموم. هـ. وقال البيضاوي: وعنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "أَنَّهُ سَأَلَ جِبريل، فَقَال: "يَعني: ظَالِمي أُمتِكَ، مَا مِنْ ظَالمٍ منهم؛ إِلاَّ هوَ معرض لحَجَرٍ يَسقُط عليه مَنْ سَاعَةٍ إلى ساعة"
. هـ. الإشارة: الاعتناء بشأن الأضياف، وحفظ حرمتهم: من شأن الكرام، والاستخفاف بحقهم، والتجاسر عليهم، من فعل اللئام. وفي الحديث: "مَن كَانَ يُؤمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخر فَليُكرمْ ضَيفَهُ" . والإسراع إلى الفواحش من علامة الهلاك، لا سيما اللواطَ والسفاح. والإيواء إلى الله والاعتصام به من علامة الفلاح، والبعد عن ساحة أهل الفساد من شيم أهل الصلاح، وكل من اشتغل بالظلم والفساد فالرمي بالحجارة إليه بالمرصاد.
ثم ذكر قصة شعيب، فقالِ: { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً }.