التفاسير

< >
عرض

يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا ٱلآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ
٤١
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ
٤٢
-يوسف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: (منهما): يتعلق بظن، والظن يحتمل أن يكون بمعنى اليقين؛ لأن قوله: (قضي الأمر) يقتضي ذلك، أو يبقى على بابه.
يقول الحق جل جلاله: قال يوسف: { يا صاحِبَي السجن } المستفتيان عن الرؤيا، { أما أحدُكُما } وهو الساقي، { فيسْقي ربه خمراً } كما كان يسقيه قبلُ، ويعود إلى ما كان عليه، { وأما الآخرُ فيُصلبُ فتأكلُ الطيرمن رأسه }، فقالا: كَذَبْنا ما رأينا شيئاً، فقال: { قُضِيَ الأمرُ الذي فيه تستفتيان }، سبق به القضاءُ في الأزل، وهو ما يؤول إليه أمركما، ولذلك وحده ولم يقل: قضي أمراكما. رُوي أنه لما دعاهما إلى التوحيد أسلم الساقي وأبى الخباز، فأخرج بعد ثلاث وصُلب.
{ وقال للذي ظنَّ أنه ناج منهما } يوسف، أي: تيقن، أو غلب على ظنه أنه ناجٍ منهما، إما عن وحي، على الأول، أو باجتهاد بسبب الرؤيا: { اذكُرني عند ربك }؛ عند سيدك، وهو المَلِك، وقل له: غلامٌ سُجنَ ظُلماً، لعله يُخلصني. قال ابن عطية: يحتمل أن يذكره بعلمه ومكانته، ويحتمل أن يذكره بمظلمته، وما امتحن به بغير حق. أو يذكره بهما. هـ. وقال الورتجبي: يحتمل أن قوله: { اذكرني عند ربك }: عَرَّف له طريقتي مع الله حتى يعرفني أني رسول الله، ويطيعني في طاعة الله، وينجو بذلك من عذابه، ويصل إلى ثوابه، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وليوحد الله تعالى، ويتخلص من كيد الشيطان، وما معه من الإنسان. هـ.
{ فأنسَاهُ الشيطانُ ذكرَ ربه } أي: فأنسى الساقي أن يذكر يوسف لربه. أو أنسي يوسفَ ذكرَ الله حتى استغاث بغير، فأدبه، { فلبثَ في السجن }، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:
"رَحِمَ الله أخِي يُوسُف، لَوْ لَمْ يَقُل: اذْكرْنِي عند رَبِّك، لَمَا لَبِثَ في السِّجنِ سَبْعاً بَعدَ الخَمسِ" .
" روي أن جبريل عليه السلام أتاه بعد المقالة، فقال له: مَن أخرجك من الجُبِّ، وخلِّصك من القتل، وعَصَمَكَ من الفاحشة؟ فقال: الله. فقال: كيف تعتصم بغيره، وتثق بالمخلوق، وترفع قصتك إليه، وتترك ربك؟! قال: يا جبريل؛ كلمات جرت على لساني، وأنا تائب لا أعود لمثلها. هـ. والاستعانة بالمخلوق، وإن كانت جائزة شرعاً، لكنها لا تليق بمقام الأقوياء. { فلبث في السجن بضْعَ سنين } البضع: من الثلاث إلى التسع.؟ رُوي أن يوسف عليه السلام سجن خمس سنين أولاً، ثم سجن بعد المقالة سبع سنين.
الإشارة: النسيان والغفلة التي لا تثبت في القلب، والخواطر التي ترد وتذهب من أوصف البشرية التي لا تنافي الخصوصية، إذ لا انفكاك للعبد عنها. قال تعالى:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [الأعراف: 201] فالطيف لا ينجو منه أحد؛ لأنه من جملة أوصاف العبودية التي بها تعرف كمالات الربوبية. وقد قال تعالى في حق سيد العارفين: { { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } [الأعراف: 200]؛ فالعصمة التي تجب للأنبياء إنما هي مما يوجب نقصاً أو غضاً من مرتبتهم. وهذه الأمور إنما توجب كمالاً؛ لأنها بها يتحقق كمال العبودية التي هي شرف العبد. فافهم وسلم، ولا تنتقد، فإن هذه الأمور لا يفهمها إلا العارفون بالله، دون غيرهم من أهل العلم الظاهر.
وقال الورتجبي: إن يوسف عليه السلام لم يعلم وقت إيمان الملك، ولم يأت وقت دخوله في الإسلام، فأنساه الشيطان ذكر ربه، في سابق حكمه، على تقدير وقت إيمان الملك، فلبث في السجن إلى وقت إيمان الملك، فنسيان يوسف: احتجابه عن النظر إلى قدره السابق. هـ.
ثم ذكر سبب خورجه من السجن، فقال: { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ إِنِّيۤ أَرَىٰ }.