التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِي ٱلْمُتَصَدِّقِينَ
٨٨
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ
٨٩
قَالُوۤاْ أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـٰذَا أَخِي قَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٩٠
قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ
٩١
قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ
٩٢
-يوسف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: (من يتق ويصبر): من قرأ بالياء: أجرى الموصول مجرى الشرط؛ لعمومه وإبهامه، فعطف على صلته بالجزم، ومنه قول الشاعر:

كذَلِكَ الذي يَبْغي عَلَى النَّاسِِ ظَالِماً تُصْبه عَلَى رغمِ عَوَاقِبُ مَا صَنَعْ

يقول الحق جل جلاله: { فلما دخلوا عليه } على يوسف حين رجعوا إليه مرة ثالثة، { قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضُّرُّ } شدة الجوع { وجئنا } إليك { ببضاعةٍ مُّزجَاةٍ }: رديئة، أو قليلة، أو ناقصة، تدفع وترد من أزجيته، دفعته. ومنه: { { يُزْجِي سَحَاباً } [النور: 43] قيل: كانت دراهم زيوفاً وقيل: الصنوبر وحبة الخضراء. وقيل: سَويق المُقْل أي: الدوم. وقيل: عروضاً. { فأوْف لنا الكَيْلَ }: أتممه لنا، { وتصدَّقْ علينا } بالمسامحة، وقبول المزجاة، أو بالزيادة على ثمننا. وهذا يقتضي أن الصدقة كانت حلالاً على الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو خلاف المشهور. أو برد أخينا، { إن الله يجزي المتصدّقين } أحسن الجزاء. والتصدق: التفضل مطلقاً، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في القصر: "هذهِ صَدَقةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ عَلَيكُمْ بها، فاقبلوا صدقته" .
رُوي أن يعقوب عليه السلام لما أرسلهم أرسلهم المرة الثالثة ليتحسسوا أخبار يوسف وأخيه، أرسل معهم كتاباً ونصه: بسم الله الرَّحمن الرحيم، من يعقوب الحزين إلى عزيز مصر، ولو عرفت اسمك لذكرتك في كتابي هذا، يا من أعتز بعز الله، فالله يُعِزُ من يشاء، ويُذل من يشاء، وإني أيها العزيز قد اشمأز قلبي، وقطع الحزن أوصالي، وإني ناهٍ إلى الإقراح، دائم البكاء والصياح، وإني من نطفة آباء كرام، فكيف يتولد اللصوص مني وأنا من الخصوص! وقد أخبرت أنك وضعت الصَّاع بالليل في رحل ولدي الأصغر، وإني حزين عليه كما كنتُ حزيناً على أخيه الفقيد، حزناً دائماً سرمداً شديداً. وإن كنت أفجعتني في الآخرة؛ فإن قلبي لا محالة طائر. ثم ختمه بالسلام.
فلما دفعوه ليوسف قرأه. وبكى بكاء شديداً، ثم دفعه لأخيه بنيامين فقرأه وبكى أيضاً. ثم نزل عن سريره، ثم دفع لهم الكتاب الذي كانوا يكتبوه لمالك بن ذعْر لما باعوه بخطوط شهادتهم، كان أخذه من مالك حين باعه. فلما قرأوه تغيرت ألوانهم وتضعضعت أركانهم، وبُهتوا، فقال لهم: { هلْ علمتم ما فعلتم بيوسفَ وأخيه }؛ من إيذاء يوسف، وتفريقه من أبيه، ومضرة أخيه من بعده، فإنهم كانوا يذلونه ويشتمونه، أي: هل علمتم قبحة فتبتم منه؟ قاله نصحاً وتحريضاً لهم على التوبة. { إذ أنتم جاهِلَون } أي: فعلتم ذلك حين كنتم جاهلين قُبح ذلك. وإنما سماهم جاهلين؛ لأن فعلهم حينئذٍ فعل الجهال، أو لأنهم حينئذٍ كانوا صبياناً طياشين، فعرفوه حينئذٍ على ظن، فقالوا: { أئنك لأنتَ يوسف }؟ بالاستفهام التقريري. وقرأ ابن كثير على الإيجاب. قيل: عرفوه بذوائبه وشمائله حين نزل إليهم وكلمهم. وقيل: تبسم فعرفوه بثناياه. وقيل: رفع التاج عن رأسه فعرفوه بِشَامةٍ كانت في رأسه بيضاء، وكانت لسارة يعقوب مثلها.
{ قال } لهم: { أنا يوسف وهذا أخي } من أبي وأمي. ذكره تعريفاً لنفسه به، وتفخيماً لشأنه، وإدخالاً له في المنة بقوله: { قد مَنّ الله علينا } بالسلامة والكرامة والعز. { إنه من يتقِ } الله { ويصبرْ } على بلواه، وعلى طاعته وتقواه { فإن الله لا يضيع أجر المحسنين }، وضع المحسنين موضع المضمر؛ تنبيهاً على أن المحسن جمع بين الصبر والتقوى. فمن اتقى الله وصبر فهو محسن...
{ قالوا تالله لقد آثَرَكَ اللهُ علينا } بحسن الصورة وكمال السيرة، أو فضلك علينا رغماً على أنفنا، { وإن كنا لخاطئين } أي: والحال أن شأننا أنَّا كنا مذنبين فيما فعلنا معك. { قال لا تثريبَ }: لا عتاب { عليكم اليوم } أي: لا عقوبة عليكم في هذا اليوم. ثم دعا لهم فقال: { يغفرُ الله لكم }، فيوقف على اليوم. وقيل: يتعلق بيغفر، فيوقف على ما قبله، وهو بعيد؛ لأنه تحكم على الله، وإنما يصلح أن يكون دعاء، إذ هو الذي يليق بآداب الأنبياء، فكأنه أسقط حق نفسه بقوله: { لا تثريب عليكم اليوم }، ثم دعا الله أن يغفر لهم الله حقه. قاله ابن جزي، وصدر به البيضاوي. وبه تعلم ضعف وقف الهبطي.
ثم قال في تمام دعائه: { وهو أرحمُ الراحمين }؛ فإنه يغفر الصغائر والكبائر، ويتفضل على التائب.
قال البيضاوي: ومن كرم يوسف عليه السلام أنهم لما عرفوه أرسلوا له، وقالوا: إنك تدعوننا بالبكرة والعشي إلى الطعام، ونحن نستحي منك لما فرط منا فيك، فقال لهم: إن أهل مصر كانوا ينظرون إليَّ بالعين الأولى، ويقولون: سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ، ولقد شَرُفْت بكم، وعظمت في أعينهم حيث إنكم إخوتي، وإني من حفدة إبراهيم عليه السلام. هـ.
الإشارة: من رام الدخول إلى حضرة الكريم الغفار، فليدخل من باب الذل والانكسار. وفي الحِكَم: "ما طلب لك شيء مثل الاضطرار، ولا أسرع بالمواهب مثل الذلة والافتقار". فإذا قرعت الباب، ورمت الدخول مع الأحباب، فقل بلسان التضرع والانكسار: يا أيها العزيز الغفار مسنا الضر، وهو البعد والغفلة، وجئنا ببضاعة مزجاة؛ عمل مدخول، وقلب معلول، فأوْفِ لنا ما أملناه من الجزاء المأمول، وتفضل علينا بالقبول والوصول، وقل: اليوم نغفر لكم ونغطي مساوءكم، ونوصلكم بما مني إليكم من الإحسان، لا بما منكم إلينا الطاعة والإذعان. هؤلاء إخوة يوسف لما أظهروا فاقتهم، واستقلوا بضاعتهم، وأحضروا شكايتهم، سمح لهم وقربهم، وكشف لهم عن وجهه الجميل، ومنحهم العطاء الجزيل، فما ظنك بالرب العظيم الجليل، الذي هو أرحم الراحمين، ومحل أمل القاصدين.
ثم أمرهم بالرجوع إلى أبيهم والإتيان به وبمن معه من أولادهمِ، فقال: { ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـٰذَا }.