التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ
٢٨
ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ
٢٩
-الرعد

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: الموصول: بدل ممن أناب، أو خبر عن مضمر، أي: هم. والموصول الثاني بدل ثانٍ، أو مبتدأ، وجملة (طوبى): خبر، وهي فُعْلى، من الطيب، كبشرى من البشارة، قلبت ياؤها واواً؛ لضم ما قبلها، ومعناها: أصبت خيراً وطيباً. وقيل: شجرة في الجنة. وسوغ الابتداء بها: ما فيها من معنى الدعاء.
يقول الحق جل جلاله: في وصف من سبقت له الهداية واتصفت بالإنابة: هم { الذين آمنوا } بالله وبرسوله إيماناً تمكَّن من قلوبهم، واطمأنت إليه نفوسُهم؛ فإذا حركتهم الخواطر والهواجم، أو فتن الزمان وأهواله { تطمئن قلوبُهم بذِكرِ اللهِ }، وترتاح بذكر الله؛ أُنساً به، واعتماداً عليه ورجاء منه، أو بذكر رحمته بعد القلق من خشيته، أو بذكر آلائه، ودلائله الدالة على وجوده ووحدانيته، أو بكلامه القرآن، الذي هو أقوى المعجزات. قاله البيضاوي. وقال في القوت: معنى تطمئن بذكر الله: تهش وتستأنس به. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرَّحمن الفاسي بعد كلام: والحاصل أن المراد من الطمأنينة: السكون إلى المذكور، والأنس به. ووجود الرَّوْحِ والفرح والانشراح، والغنى به. هـ.
قال تعالى: { ألا بذِكْرِ الله تطمئن القلوبُ } لا بغيره، فلا تسكن إلا إليه، ولا تعتمد إلا عليه؛ فإن سكنت إلى غيره ذهب نورها، وعظم قلقها. { الذين آمنوا وعملوا الصالحات طُوبَى لهم } أي: لهم عيش طيب وحياة طيبة. أو الجنة، أو شجرة فيها، { وحُسنُ مآبٍ } أي: مرجع يرجعون إليه بعد الموت.
الإشارة: الطمأنينة على قسمين: طمأنينة إيمان وطمأنينة شهود وعيان. قوم اطمأنوا إلى غائب موجود، وقوم إلى آخر مشهود. قوم اطمأنوا بوجود الله من طريق الإيمان على نعت الدليل والبرهان، وقوم اطمأنوا بشهود الله من طريق العيان على نعت الذوق والوجدان. وهذه ثمرة الإكثار من ذكر الله.
قال الشيخ الشاذلي رضي الله عنه: حقيقة الذكر: ما اطمأن بمعناه القلب، وتجلّى في حقائق سحاب أنوار سمائه الرب. هـ. وقال الورتجبي: إنْ كان الإيمان من حيث الاعتقاد، فطمأنينة القلب بالذكر، وإن كان من حيث المشاهدة فطمأنينة القلوب بالله وكشف وجوده. هـ. فطمأنينة الإيمان لأهل التفكر والاعتبار من عامة أهل اليمين. وطمأنينة العيان لأهل الشهود والاستبصار من خاصة المقربين. أهل الأولى يستدلون بالأشياء على الله، وأهل الثانية يستدلون بالله على الأشياء؛ فلا يرون إلا مظهر الأشياء. وشتان بين من يستدل به أو يستدل عليه؛ المستدل به عرف الحق لأهله، وأثبت الأمر من وجود أصله، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه، وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه، ومتى بَعُدَ حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه؟!. كما في الحِكَم.
وقال في المناجاة: "إلهي كيف يُستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟!. أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك؟! متى غِبْتَ حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟!.
وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: "كيف يُعرف بالمعارف من به عُرفت المعارف؟! أم كيف يُعرف بشيء مَنْ سَبَقَ وجودُه كلَّ شيء؟ أي: وظهر بكل شيء". وفي ذلك يقول الشاعر:

عَجِبْتُ لِمَنْ يَبْغِي عَلَيْكَ شَهَادَةً وَأَنْتَ الَّذي أَشْهَدْتَهُ كُلَّ شَاهِدِ

وقال آخر:

لَقَدْ ظَهَرْتُ فَمَا تَخْفَى على أَحَدٍ إِلاَّ عَلى أَكْمَهٍ لا يُبْصِرُ القَمَرَا
لَكِنْ بَطنْتَ بِما أَظْهَرْتَ مُحْتَجِبِاً وكَيْفَ يُبْصِرُ مَنْ بالْعِزَّةِ اسْتَتَرَا

وأهل طمأنينة الإيمان على قسمين؛ باعتبار القرب والبُعد: فمنهم من يطمئن بوجود الحق على نعت القرب والأنس، وهم أهل المراقبة من الزهاد والصالحين، والعلماء العابدين المجتهدين، وهم متفاوتون في القرب على قدر تفرغهم من الشواغل والعلائق، وعلى قدر التخلية والتحلية. ومنهم من يطمئن إليه على نعت البعد من قلبه، وهم أهل الشواغل والشواغب، و العلائق والعوائق. وعلامة القرب: وجود حلاوة المعاملة، كلذيذ المناجاة، والأنس به في الخلوات، ووجود حلاوة القرآن والتدبر في معانيه، حتى لا يشبع منه من كل أوان. وعلامة البعد: فقد الحلاوة المذكورة، وعدم الأنس به في الخلوة، وفقد الحلاوة القرآن، ولو كان من أعظم علماء اللسان.
وأهل طمأنينة الشهود على قسمين أيضاً: فمنهم من تشرق عليه أنوار، وتحيط به الأسرار، فيغرق في الأنوار وتطمس عنه الآثار، فيكسر ويغيب عن الأثر في شهود المؤثر، ويسمى عندهم هذا المقام: مقام الفناء. ومنهم من يصحو من سكرته، ويفيق من صعقته، فيشهد المؤثر، لا يحجبه جمعه عن فرقه، ولا فرقة عن جمعه، ولا يضره فناؤه عن بقائه، ولا بقاؤه، عن فنائه، يعطي كل ذي حق حقه، ويوفي كل ذي قسط قسطه، وهو مقام البقاء، ولا يصح وجوده إلا بعد وجود ما قبله، فلا بقاء إلا بعد الفناء، ولا صحو إلا بعد السكْر. ومن ترامى على هذا المقام ـ أعني مقام البقاء ـ من غير تحقيق مقام السكر والفناء فهو لم يبرح عن مقام أهل الحجاب.
واعلمْ أن طمأنينة الإيمان تزيد وتنقص، وطمأنينة العيان، إن حصلت، تزيد ولا تنقص. فمواد أسباب زيادة طمأنينة الإيمان أشياء متعددة، فمنهم من تزيد طمأنينته بالتفكر والاعتبار. إما في عجائب المصنوعات وضروب المخلوقات، فيطمئن إلى صانعٍ عظيم القدرة باهر الحكمة. وإما بالنظر في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، وباهر علمه، وعجائب حكمه وأسراره، وإخباره بالأمور الغيبية السابقة والآتية، مع كونه نبياً أمّياً. فإذا تحقق معرفة الرسول فقد تحقق بمعرفة الله، واطمأن به؛ لأنه الواسطة العظمى، بين الله وبين عباده. ومنهم من تزيد طمأنينته بموالاة الطاعات وتكثير القربات، كالذكر وغيره. ومنهم من تزيد طمأنينته بزيادة الأولياء أحياء أو ميتين. ومادة الأحياء أكثر، ونور طمأنينتهم أبهر، لا سيما العارفين، وفي الأثر: تعلموا اليقين بمجالسة أهل اليقين.
وأما طمأنيته أهل الشهود: فزيادتها باعتبار زيادة الكشف وحلاوة الشهود، والترقي في العلوم والأسرار، والاتساع في المقامات إلى ما لا نهاية له، في هذه الدار الفانية وفي الدار الباقية، ففي كل نَفَس يُجدد لهم كشوفات وترقيات ومواهب وتُحف، على قدر توجههم وتحققهم. حققنا الله بمقامهم، وأتحفنا بما أتحفهم. آمين
ولا بد في تحصيل طمأنينة الشهود من صُحبة شيخ عارف طبيبٍ ماهر، يقدح عين البصيرة حتى تنفتح؛ فما حجب الناس عن شهود الحق إلا طمسُ البصيرة؛ فإذا اتصل بشيخٍ عارفٍ كحل عين بصيرته أولاً بإثمد على اليقين، فيدرك شعاع نور الحق قريباً منه، ثم يكحل عينه ثانياً بإثمد عين اليقين، فيدرك عدمه لوجود الحق، أي: يغيب عن حسه بشهود معناه القائم به. ثم يكحل عينه بإثمد حق اليقين، فيدرك وجود الحق ـ بلا واسطة قدرة وحكمة، معنى وحساً، لا يتحجب بأحدهما عن الآخر. وإلى هذا أشار في الحِكَم بقوله: "شعاع البصيرةُ يُشهدك قرب الحق منك، وعين البصيرة يُشهدك عدمك لوجوده، وحق البصيرة يُشهدك وجود الحق، لا عدمك ولا وجودك. وكان شيء معه، وهو الآن على ما كان عليه.
وأهل طمأنينة الشهودهم خاصة ورثة الرسول عليه الصلاة والسلام