التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلأَنْهَارَ
٣٢
وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ
٣٣
وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ
٣٤
-إبراهيم

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: (الله): مبتدأ، و(الذي)، وما بعده: خبر، و (رزقاً لكم): مفعول أخرج، و (من الثمرات): بيان له، حال، ويجوز العكس، ويجوز أن يراد بالرزق: المصدر، فينصب على العلة أو المصدر؛ لأن (أخرج) فيها معنى "رَزَقَ"، و (دائبينْ): حال، والدؤوب: الدوام على عمل واحد، و (من كل ما سألتموه): يحتمل أن تكون "ما" مصدرية، أو موصولة، أو موصوفة.
يقول الحق جل جلاله: { اللهُ الذي خلق السماوات والأرض } من أجلكم، السماء تُظلكم، والأرض تُقلكم، { وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمراتِ رزقاً لكم }، تعيشون به وتتفكهون منه. ويشمل الملبوس، كالقطن، والكتان، وشبه ذلك { سخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره }: بمشيئته وقدرته، إلى حيث توجههم مع أسباب حكمته، تغطية لقدرته، وهو ما يتوقف عليه جريها وإرساؤها، من الجبال والقلاع، { وسخّر لكم الأنهار } مطردة لانتفاعكم بالسفن والشرب، وسائر منافعها، فجعلها مُعدَّة لا نتفاعكم وتصرفكم. وقيل: تسخير هذه الأشياء: تعليم كيفية اتخاذها والانتفاع بها.
{ وسخَّر لكم الشمسَ والقمرَ دائبين }؛ متماديين في الطلوع والغروب، يدأبان في سيرهما وإنارتهما، وإصلاح ما يصلحانه من المكونات، بقدرة خالقهما، { وسخَّر لكم الليلَ والنهارَ } يتعاقبان لسكناتكم ومعايشكم. { وآتاكم من كل ما سألتموه } أي: وآتاكم بعض جميع ما سألتموه، وهو ما يليق بكم، وما سبق لكم في مشيئته وعلمه. قال البيضاوي: ولعل المراد بما سالتموه: ما كان حقيقياً بأن يسأل؛ لاحتياج الناس إليه، سُئل أو لم يسأل. هـ. وقرأ الضحاك وابن عباس: "من كُلِّ"؛ بالتنوين، أي: وآتاكم من كل شيء احتجتم إليه، وسألتموه بلسان الحال. ويجوز على هذا أن تكون "ما" نافية، في موضع الحال، أي: وآتاكم من كل شيء غير سائليه.
{ وإن تعدوا نعمةَ الله لا تُحصوها }: لا تحصوها، ولا تطيقوا عدَّ أنواعها، فضلاً عن أفرادها، فإنها غير متناهية؛ فمنها ظاهرة، ومنها باطنة، كالهداية والمعرفة. قال طلق بن حبيب: إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد، ونعمة أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا توابين، وأمسوا توابين. هـ. وقال أبو الدرداء: من لم ير نعمة الله إلا في مطعمه ومشربه، فقد قلَّ علمه، وحضر عذابه. هـ. { إنَّ الإنسانَ لظلوم }؛ بظلم النعمة لمَّا غفل عن شكرها، أو بظلم نفسه لمَّا عرضها للحرمان، بارتكاب المعاصي، { كفارٌ }: شديد الكفران، وقيل: ظلوم في الشدة يشكو ويجزع كفّار في النعمة يجمع ويمنع. قاله البيضاوي.
الإشارة: الله الذي أنزل من سماء الملكوت علوماً وأسراراً، تحيا به القلوب والأرواح، فأخرج به من أرض النفوس، ثمرة اليقين والطمأنينة، رزقاً لأرواحكم. وسخر لكم فلك الفكرة تجري في بحر التوحيد، وفضاء التفريد بأمره. وسخر لكم أنهار العلوم، منها ما هو علم الرسوم لأصلاح الظواهر، ومنها ما هو علم الحقائق لإصلاح الضمائر. وسخر لكم شمس العرفان وقمر الإيمان، دائبين، يستضيء بقمر التوحيد في السير إلى معرفة أنوار الصفات، وبشمس العرفان إلى أسرار الذات. وسخَّر لكم ليل القبض لتسكنوا فيه، ونهار البسط، لتنشروا في اقتباس العلوم وربما أفادك في ليل القبض ما لم تفسده في نهار البسط (لا تدرون أيهم أقرب نفعاً). وآتاكم من كل ما سألتموه حين كمل تهذيبكم، وصح وصلكم، فيكون أمركم بأمر الله. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصُوها؛ إذ نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد لا حدَّ لهما في هذه الدار وفي تلك الدار، ففي كل نَفَس يمدهم بمَددٍ جديد، ومع هذا كله يغفل العبد عن هذه النعم!! إن الإنسان لظلوم كفار، وشكرها: نسبتها لمعطيها، وحمد الله عليها. وفي الحكم: "لا تدهشك واردات النعم عن القيام بحقوق شكرك؛ فإنَّ ذلك مما يحط من وجود قدرك".
قال سهل بن عبد رضي الله عنه: ما من نعمة إلا والحمد أفضل منها، والنعمة التي ألهم بها الحمد أفضل من الأولى، لأن الشكر يستوجب المزيد. وفي أخبار داود عليه السلام أنه قال: إلهي، ابنُ آدمَ ليس فيه شعرة إلا وتحتها نعمة، وفوقها نعمة، فمن أين يكافئها؟ فأوحى الله تعالى إليه: يا داود، إني أُعْطِي الكثير وأرْضَى باليسير، وإنَّ شكر ذلك أن تعلم أن ما بك من نعمة فمني. هـ.
ومن جملة النعم التي يجب الشكر عليها وهي التي بدلها الكفار كفراً.