التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ ٱلأَوَّلِينَ
١٠
وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
١١
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ
١٢
لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ
١٣
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ ٱلسَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ
١٤
لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ
١٥
-الحجر

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جل جلاله: في تسلية رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ { ولقد أرسلنا مِن قبْلِكَ } رسلاً { في شِيَعٍ }: فرق { الأولين } أي: القرون الماضية، جمع شيعة، وهي: الفرقة المتفقة على طريق واحد، وتتشيع لمذهب أو رجل، من شاعه إذا تبعه، أي: نبأنا رجالاً فيهم، وجعلناهم رسلاً إليهم، فكذبوهم واستهزؤوا بهم، فكانوا: { ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } كما يفعل بك هؤلاء المجرمون.
{ كذلك نَسْلُكُه } أي: ندخل الاستهزاء { في قلوب المجرمين }. والسلك: إدخال الشيء كالخيط في المخيط، وفيه دليل على أنه تعالى يخلق الباطل دليل على أنه تعالى يخلق الباطل في قلوبهم. وإذا سلك في قلوبهم التكذيب { لا يؤمنون به } أبداً. أو: نسلكه، أي: القرآن؛ مستهزءاً به، أي: مثل ذلك السلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين؛ مُكَذَّباً غير مؤمن به، ثم هددهم على عدم الإيمان به، فقال: { وقد خلت سُنَّةُ الأولين } أي: تقدمت طريقتهم على هذه الحالة من الكفر والاستهزاء، حتى هلكوا بسبب ذلك، أو مضت سنته في الأولين بإهلاك من كذب الرسل منهم، فيكون وعيداً لأهل مكة.
{ ولو فتحنا عليهم } أي: على هؤلاء المقترحين المعاندين من كفار قريش، { باباً من السماء فظلوا فيه يعرجُون }: يصعدون إليها، ويرون عجائبها طول نهارهم، لكذبوا، أو فظلت الملائكة يعرجون فيها وهم يشاهدونهم لقالوا؛ من شدة عنادهم وتشكيكهم في الحق: { إنما سُكِّرتْ }: حيرت { أبصارُنا }، فرأينا الأمر على غير حقيقته؛ من أجل السكر الذي أصابنا بالسحر.
ويحتمل أن يكون مشتقاً من السَكر بفتح السين، وهو السد، أي: سُدَّت أبصارنا، ومُنعنا من الرؤية الحقيقية. { بل نحن قوم مسحورون }؛ سحرنا محمد، كما قالوا عند ظهور غيره من الآيات. قال البيضاوي: وفي كلمتي الحصر والإضراب دلالة على جزمهم بأن ما يرونه لا حقيقة له، بل هو باطل خُيّل ما خيل لهم بنوع من السحر. هـ. وذلك من فرط عنادهم، وشقاوتهم. والعياذ بالله.
الإشارة: هذا كله من قبيل التسلية لأهل الخصوصية، إذا قوبلوا بالإنكار والاستهزاء، فيرجعون إلى الله، والاكتفاء بعلمه، والاشتغال بالله عنه. وقد قال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه: عداوة العدو حقاً هي اشتغالك بمحبة الحبيب، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو نال مراده منك، وفاتتك محبة الحبيب. وقال الولي الصالح سيدي أبو القاسم الخصاصي رضي الله عنه لبعض تلامذته: لا تشتغل قط بمن يؤذيك، واشتغل بالله يرده عنك، فإنه هو الذي حركه عليك، ليختبر دعواك في الصدق. وقد غلط في هذا الأمر خلق كثير اشتغلوا بإيذاء من آذاهم، فدام الأذى مع الإثم، ولو أنهم رجعوا إلى الله لردهم عنهم، وكفاهم أمرهم. هـ.
ثمَّ دلهم على المعجزة الحقيقية التي تدلهم على التوحيد