التفاسير

< >
عرض

يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوۤاْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱتَّقُونِ
٢
-النحل

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { أن أنذروا }: مفسرة، بمعنى أي؛ لأن الوحي فيه معنى القول. أو مصدرية في موضع الجر، بدلاً من الروح، أو النصب بنزع الخافض، أو مخففة من الثقيلة. وقوله: { لا إله إلا أنا } جرى على المعنى، ولم يجر على اللفظ، وإلا لقال: لا إله إلا الله. انظر ابن عطية. قال المحشى الفاسي: وسر ذلك هنا: التصريح بالمقصود، وأن الإله الواحد هو المتكلم لا غيره، كما قيل في قوله: { { إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّاىَ فَارْهَبُونِ } [النّحل: 51]، أي: ولم يقل: فإياه فارهبوا، بل نقل الكلام من الغيبة إلى التكلم؛ مبالغة في الترهيب، وتصريحًا بالمقصود، كأنه قال: فأنا ذلك الإله الواحد، فإياي فارهبون لا غير. هـ.
قلت: وكأنه قال هنا: يُنزل الملائكةَ بالوحي أن أَعلِموا أنه لا يُعبد إلا إله واحد، وأنا ذلك الواحد.
يقول الحقّ جلّ جلاله: تحقيقًا لِمَا وعدهم به، وأن ذلك الوعد، مع دنوه وقربه بالوحي، فلا خلف فيه، فقال: { يُنَزِّلُ الملائكةَ } أي: جبريل، جمعه؛ تعظيمًا، أو: لأنه قد ينزل معه غيره من الملائكة، فيحضرون الوحي؛ حُرّسا له. أو: لأنه قد ينزل بالوحي غيره من الملائكة، كما في صحيح مسلم:
"إن سورة الحمد نزل بها ملك لم ينزل إلى الأرض قبل ذلك" . وقال عليه الصلاة والسلام: "إن إسرافيل وُكِّلَ بي في ثلاث سنين، فكان يأتيني بالكلمة والكلمتين، ثم كان جبريل يأتيني بالقرآن في كل وقت" .ورُوي أن خالد بن سنان كان نبيًا، وكان يأتيه بالوحي مالك خازن النار، وكان بعد عيسى عليه السلام، ولم يبق في النبوة إلا عشرين يومًا، ثم مات، فلقصر مدته لم يُعد نبيًا، بعد عيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما كانت فترة خمسمائة عام. وذكر ابن العربي أن ذا القرنين كان ينزل عليه ملك، يقال له: رفائيل، فكان يلقي إليه الوحي، ويطوي له الأرض. هكذا نقل الشطيبي عنه في اللباب، فانظره.
وقوله: { بالروح } أي: بالوحي، أو القرآن؛ فإنه سبب حياة القلوب والأرواح الميتة بالجهل والحجاب، أو سبب حياة الدين بعد موته واندراسه بالكفر؛ فإن الوحي يقوم في الدين مقام الروح من الجسد. يُنزل ذلك { من أمره } أي: من أجل أمره وبيان شأنه، أو بأمره وإذنه، { على مَن يشاء من عباده } أن يصطفيه للرسالة، قائلاً لهم: { أنْ أنذروا }: خوفوا أهل الشرك، أو أعْلِموا عبادي { أنه } أي: الأمر والشأن، { لا إله إلا أنا فاتقون }؛ بترك الكفر والمعاصي، أي: اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية، بأن تُوحدوه، وتطيعوه فيما أمر به.
قال البيضاوي: والآية تدل على أن نزول الوحي بواسطة الملائكة، وأن حاصله: التنبيه على التوحيد، الذي هو القوة العلمية، والأمر بالتقوى الذي هو أقصى كمالات القوة العملية. وأن النبوة عطائية - أي: لا كسبية-، والآيات التي بعدها دليل على وحدانيته، من حيث إنها تدل على أنه تعالى هو الموجد لأصول العالم وفروعه، على وفق الحكمة والمصلحة، ولو كان له شريك لقَدَرَ على ذلك، فيلزم التمانع. هـ.
الإشارة: قوله تعالى: { بالروح }: قال الورتجبي: الوحي الإلهي، سماه بالروح؛ لأن كلامه صدر من ذاته، وهو حياة قلوب الصديقين من المكلَّمين والمحدَّثين، وهو سبب حياة قلوب المؤمنين، يحييهم بعلمه من موت الجهالة. هـ.
وقال القشيري في قوله: { على مَن يشاء من عباده }: على الأنبياء بالوحي والرسالة، وعلى أسرار أرباب التوحيد، وهم المُحَدَّثُون بالتعريف والعلم. فالتعريف للأولياء من حيث الإلهام والخواطر، أي: الواردات. وإنزال الملائكة على قلوبهم غير ممنوعٍ، ولكنهم لا يُؤْمَرُون أن يتكلموا بذلك، ولا يَحْمِلون الرسالة إلى الخلق. هـ.
قلت: وكأنه ينظر إلى قوله - عليه الصلاة والسلام -:
"علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" ، فهم يشاركون الأنبياء في الوحي الإلهامي، ولا يبلغون ذلك إلا لمن صدقهم وتبعهم في طريقهم. والله تعالى أعلم.
ثمَّ عرف بنفسه بما أظهر من تجلياته العلوية والسفلية