التفاسير

< >
عرض

أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ
١٧
وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٨
وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ
١٩
وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ
٢٠
أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ
٢١
إِلٰهُكُمْ إِلٰهٌ وَاحِدٌ فَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ
٢٢
لاَ جَرَمَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ
٢٣
-النحل

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { وما يشعرون أيان يبعثون }، الضمير الأول للأصنام، والثاني للكفار الذين عبدوهم، وقيل: للأصنام فيهما، وقيل: للكفار فيهما، و { لا جرم }: إما أن يكون بمعنى لا شك، أو لا بدّ، أو تكون "لا" نفيًا لِمَا تقدم. و "جَرَم": فعل، بمعنى وجب، أو حق، و { أن الله }: فاعل بجَرَم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { أفمن يَخلُقُ } كل شيء، ويَقدر على كل شيء، { كمن لا يَخْلُق } شيئًا، ولا يقدر على شيء، بل هو أعجز من كل شيء؟ وهو إنكار على من أشرك مع الله غيره، بعد إقامة الدلائل المتكاثرة على كمال قدرته، وباهر حكمته، بذكر ما تقدم من أنواع المخلوقات وبدائع المصنوعات، وكان حق الكلام: أفمن لا يخلق كمن يخلق، لكنه عكس؛ تنبيهًا على أنهم، بالإشراك بالله، جعلوه من جنس المخلوقات العجزة، شبيهًا بها. والمراد بمن لا يخلق، كل ما عُبد من دون الله، وغلب أولي العلم منهم، فعبَّر بمن، أو يريد الأصنام، وأجراها مجرى أولي العلم؛ لأنهم سموها آلهة، ومن حق الإله أن يعلم، أو للمشاكلة بينه وبين من يخلق. { أفلا تذكَّرون }؛ فتعرفوا فساد ذلك؛ فإنه لظهوره كالحاصل للعقل الذي يحضر عنده بأدنى تذكر والتفات.
ولما ذكر أنواعًا من المخلوقات على وجه الاستدلال على وحدانيته - وفي ضمنها: تعداد النِعَم على خلقه - أعقبها بقوله: { وإن تعدوا نِعمةَ الله لا تُحصوها } أي: لا تطيقوا عدها، فضلاً أن تطيقوا القيام بشكرها. ثم أعقبها بقوله: { إنَّ الله لغفور رحيم }؛ تنبيهًا على أن العبد في محل التقصير، لولا أن الله يغفر له تقصيره في أداء شكر نعمه، ويرحمه ببقائها مع تقصيره في شكرها.
{ والله يعلم ما تُسِرُّون وما تُعلنون } من عقائدكم وأعمالكم، وهو وعيد لمن كفر النعم وأشرك مع الله غيره، سرًا أو علانية، ثم قال تعالى: { والذين تدعون } أي: والأصنام الذين تعبدونهم { من دون الله لا يَخْلُقون شيئًا }؛ لظهور عجزهم. لَمَّا نفى المشاركة بين من يخلق ومن لا يخلق، بيَّن أنها لا تخلق شيئًا؛ ليتحقق نفي الألوهية عنها؛ ضرورةً. ثم علل عجزها، وعدم استحقاقها للألوهية بقوله: { وهم يُخْلقون } أي: وهم مخلوقون مفتقرون في وجودهم إلى التخليق، والإله لا بدّ أن يكون واجب الوجود.
وهم، أيضًا، { أمواتٌ غير أحياء } أي: لم تكن لهم حياة قط، ولا تكون، وذلك أغرق في موتها ممن تقدمت له حياة، ثم مات. والإله ينبغي أن يكون حيًا بالذات لا يعتريه الممات. { وما يشعرون أيّان يُبعثون } أي: لا يعلمون وقت بعثهم، أو بعثِ عَبَدَتِهِمْ، فكيف يكون لهم وقت يجازون فيه من عبدهم، والإله ينبغي أن يكون عالمًا بالغيوب، قادرًا على الجزاء لمن عبده؟ وفيه تنبيه على أن البعث من توابع التكليف. قاله البيضاوي.
قال ابنُ جُزَيْ: نفى عن الأصنام صفة الربوبية، وأثبت لهم أضدادها؛ وهي أنهم مخلوقون غير خالقين، وغير أحياء، وغير عالمين وقت البعث، فلما قام البرهان على بطلان ربوبيتهم، أثبت الربوبية لله وحده، فقال: { إلهكم إله واحد }. هـ. وهو تصريح بما أقام عليه الحجج والبراهين بما تقدم.
ثم ذكر سبب إصرارهم على الكفر - وهو إنكار البعث والتكبر - فقال: { فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم مُنْكِرةٌ وهم مستكبرون } أي: فالمنكرون للبعث قلوبهم منكرة لوحدانيته تعالى، وهم مستكبرون عن اتّباع الرسل فيما جاؤوا به، والخضوع لهم؛ لأن المؤمن بالآخرة يكون طالبًا للدلائل، متأملاً فميا يسمع، فينتفع به، خاضعًا للحق، متبعًا لمن جاء به، بخلاف الكافر، يكون حاله بالعكس؛ منهمكًا في الغفلة، متبعًا للهوى، يُنكر بقلبه ما لا يعرف إلا بالبرهان، اتّباعًا للأسلاف، وتقليدًا لهم، وركونًا إلى المالوف.
قال تعالى: تهديدًا لمن هذا وصفه: { لا جَرَمَ }: لا بدّ، أو لا شك، أو حَقٌّ { أنَّ الله يعلم ما يُسرون وما يعلنون }، فيجازيهم عليه؛ { إنه لا يحب المستكبرين } مطلقًا، فضلاً عن الذين استكبروا عن توحيده واتّباع رسوله. ومفهومه: أنه يحب المتواضعين الخاضعين للحق، ولمن جاء به، وهم المؤمنون. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد تضمنت الآية ثلاث خصال من خصال أهل التوحيد: الأولى: رفع الهمة عن الخلق، وتعلقها بالخالق في جميع المطالب والمآرب؛ إذ لا يترك العبد من هو خالق كل شيء، قادر على كل شي، دائم لا يموت، ويتعلق بعبد عاجز ضعيف، لا يقدر على نفع نفسه، فكيف ينفع غيره؟ { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون }، { والذين تدعون من دون الله لا يَخلقون شيئًا وهم يُخلقون أموات غير أحياء }. وأنشدوا في هذا المعنى:

حَرَامٌ على مَنْ وَحَّد الله رَبَّهُوأفْرَدَهُ أَنْ يَحْتَذِي أحدًا رِفْدَا
فَيَا صَاحِبي قفْ بي عَلَى الحَقِّ وَقْفةًأَمُوتُ بها وَجْدًا وأحْيَا بِها وَجْدا
وقُلْ لمُلوكِ الأرْضِ تَجْهَدُ جُهدهافَذَا المُلك مُلكٌ لا يُباع ولا يُهدى

والخصلة الثانية: تذكر البعث وما بعده، وتقريبُه وجعله نصب العين؛ إذ بذلك يحصل الزهد في هذه الدار الفانية، والاستعداد والتأهب للدار الباقية، وبه تلين القلوب، وتتحقق بعلم الغيوب، وبه يحصل الخضوع للحق، والتعظيم لمن جاء به. بخلاف من أنكره، أو استبعده، قال تعالى: { فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون }.
الخصلة الثالثة: التواضع والخضوع لله، ولمن دعا إلى الله، وهو سبب المحبة من الله، ورفع الدرجات عند الله؛ قال صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ، ومَنْ تَكَبر وَضَعَهُ الله" . وقال أيضًا: "مَنْ تَوَاضَعَ دُون قَدْره، رَفَعَهُ الله فوق قَدْره" . بخلاف المتكبر؛ فإنه ممقوت عند الله، مطرود عن باب الله؛ قال تعالى: { إنه لا يحب المستكبرين }. وفي الحديث: "لاَ يَدْخُلُ الجنَّةَ مَنْ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَرْدلٍ مِنْ كِبْرٍ" ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، "والتكبر: بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس" ، أي: جحد الحق، واحتقار الناس. والله تعالى أعلم.