التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
٢٤
لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ
٢٥
قَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ ٱلْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ
٢٦
ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ إِنَّ ٱلْخِزْيَ ٱلْيَوْمَ وَٱلْسُّوۤءَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ
٢٧
ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ ٱلسَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوۤءٍ بَلَىٰ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
٢٨
فَٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَبِّرِينَ
٢٩
-النحل

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { ماذا }، يجوز أن يكون اسمًا واحدًا مركبًا منصوبًا بـ { أَنزل }، وأن تكون (ما): استفهامية في موضع رفع بالابتداء، و (ذا): بمعنى "الذي": خبر، وفي أنزل ضميرٌ محذوف، أي: ما الذي أنزله ربكم؟ واللام في { ليحملوا }: لام العاقبة والصيرورة، أي: قالوا: هو أساطير الأولين؛ فأوجب ذلك أن يحملوا أوزارهم وأوزار غيرهم، وقيل: لام الأمر، و { بغير علم }: حال من المفعول في { يُضلونهم }، أو من الفاعل، و { تُشاقُّون }: من قرأه بالكسر؛ فالمفعول: ضمير المتكلم، وهو الله تعالى، ومن قرأه بالفتح؛ فالمفعول محذوف، أي: تشاقون المؤمنين من أجلهم. و { ظالمي أنفسهم }: حال من ضمير المفعول في: "تتوفاهم".
يقول الحقّ جلّ جلاله: { وإذا قيل لهم } أي: كفار قريش: { ماذا أنزل ربكم } على رسوله محمد - عليه الصلاة والسلام -؟ { قالوا }: هو { أساطير الأولين } أي: ما سطره الأولون وكتبوه من الخرافات. وكان النضر بن الحارث قد اتخذ كتب التواريخ، ويقول: إنما يُحدِّث مُحمدٌ بأساطير الأولين، وحديثي أجمل من حديثه. والقائل لهم هم المقتسِمُون، وتسميته، حينئذ، مُنزلاً؛ إما على وجه التهكم، أو على الفَرض والتقدير، أي: على تقدير أنه منزل، فهو أساطير لا تحقيق فيه. ويحتمل أن يكون القائل لهم المؤمنين، فلا يحتاج إلى تأويل.
{ ليحملوا أوزارهَم كاملةً يوم القيامة } أي: قالوا ذلك؛ ليُضلوا الناس، فكان عاقبتهم أن حملوا أوزار ضلالهم كاملة، { ومن أوزارِ الذين يُضلونهم }: وبعض أوزار ضلال من كانوا يضلونهم - وهو حصة التسبب في الوقوع في الضلال - حال كونهم { بغير علم } أي: يضلون من لا يعلم أنهم ضُلاّل. وفيه دليل على أن الجاهل في العقائد غير معذور؛ إذ كان يجب عليه أن يبحث عن الحق وأهله، وينظر في دلائله وحُججه.
قال البيضاوي: { بغير علم }: حال من المفعول؛ أي: يضلون من لا يعلم أنهم ضُلاّل، وفائدتها: الدلالة على أن جهلهم لا يعذرهم؛ إذ كان عليهم أن يبحثوا، ويميزوا بين المحق والمبطل. هـ. وقال المحشي: ففيه ذم تقليد المبطل، وأن مقلده غير معذور، بخلاف تقليد المحق الذي قام بشاهد صدقه المعجزة، أو غير ذلك، كدليل العقل والنقل فيما تعتبر دلالته. هـ.
قلت: ويجوز أن يكون حالاً من الفاعل، أي: يُضِلُّونَ في حال خلوهم من العلم، فقد جمعوا بين الضلال والإضلال.
قال تعالى في شأن أهل الإضلال: { ألا سَاءَ ما يَزِرُون }، أي: بئس شيئًا يزرونه فعلهم هذا.
{ قد مكر الذين من قَبلِهم } أي: دبروا أمورًا ليمكروا بها الرسل، { فأتى اللهُ بُنيانهم من القواعد } أي: قصد ما دبروه من أصله، فهدمه، { فخرَّ عليهم السَّقْفُ من فوقهم }، وصار ما دبروه، وبنوه من المكر، سبب هلاكهم، { وأتاهم العذابُ من حيث لا يشعرون }؛ لا يحتسبون ولا يتوقعون، وهو على سبيل التمثيل. وقال ابن عباس وغيره: المراد به نمرود بن كنعان، بنى الصرح ببابل، سُمْكُهُ خمسة آلاف ذراع؛ ليترصّد أمر السماء، فبعث الله ريحًا فهدمته، فخرَّ عليه وعلى قومه، فهلكوا، وقيل: إن جبريل عليه السلام هدمه، فألقى أعلاه في البحر، وانجعف من أسفله.
{ ثم يَوْمَ القيامة يُخزيهم }: يذلهم ويعذبهم بالنار، { ويقول أين شركائِيَ }، أضافها إلى نفسه؛ استهزاء، أو حكاية لإضافتهم إياها إليه في الدنيا؛ زيادةً في توبيخهم، أي: أين الشركاء { الذين كنتم تُشاقون فيهم }: تعادون المؤمنين في شأنهم، أو تشاقونني في شأنهم؛ فإن مُشاقة المؤمنين كمشاقته، أو تحاربون وتخارجون، فتكونون في شق والحق في شق، { قال الذين أُوتوا العلم }؛ وهم الأنبياء والعلماء الذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد، فيشاققونهم ويتكبرون عليهم، أو الملائكة: { إنّ الخزي اليوم والسُّوءَ }: الذلة والعذاب { على الكافرين }. وفائدة قولهم ذلك لهم: إظهارُ الشماتة وزيادة الإهانة، وحكايته، ليكون لطفاً لمن سمعه من المؤمنين، فيزيد حذرًا وحزمًا في الطاعة، وقال الواحدي: إن الخزي اليوم والسوء عليهم لا علينا. هـ. أي: فيقولونه؛ اعترافًا واستبشارًا بإنجاز ما وعدهم الله، كما قالوا: الحمد لله الذي هدانا لهذه الهداية.
ثم وصفهم بقوله: { الذين تتوفاهم الملائكةُ }؛ تقبض أرواحهم { ظالمي أنفسِهِم }؛ بأن عرضوها للعذاب المخلد، { فألقَوُا السَّلَمَ } أي: استسلموا، وألقوا القياد من أنفسهم، حين عاينوا الموت، قائلين: { ما كنا نعملُ من سُوء }: من كفر وعدوان، يحتمل أن يكون قولهم ذلك قصدوا به الكذب؛ اعتصامًا به، كقولهم:
{ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعَام: 23]، أو يكونوا أخبروا على حساب اعتقادهم في أنفسهم، فلم يقصدوا الكذب، ولكنه كذب في نفس الأمر. قال الحسن: هي مواطن، فمرة يُقرون على أنفسهم، كما قال تعالى: { وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } [الأنعَام: 130]، ومرة يجحدون كهذه الآية، فتجيبهم الملائكة بقولهم: { بلى } قد كنتم تعملون السوء والعدوان، { إن الله عليم بما كنتم تعملون } فهو يجازيكم عليه. وقيل: إن قوله: { فألقَوُا السَّلَمَ } إلى آخر الآية، راجع إلى شرح حالهم يوم القيامة، فيتصل في المعنى بقوله عزّ وجلّ: { أين شركائي الذين كنتم تُشاقون فيهم } إلخ، فيكون الرَّادُ عليهم بقوله: { بلى)، هو الله تعالى، أو: أولو العلم، ويُقوي هذا قوله بعده { فادخلوا أبواب جهنم }؛ لأن دخولها لا يكون إلا بعد البعث والحساب، لا بعد الموت؛ إذ لا يكون بعد الموت إلا العرض عليها غُدوًا وعشيًا، والمراد بدخول أبوابها، أي: التي تفضي إلى طبقاتها، التي هي بعضها على بعض، وأبوابها كذلك، كل صنف يدخل من بابه المُعَدِّ له، { خالدين فيها فلبئس مثوى } أي: مقام { المتكبرين } جهنم.
الإشارة: وإذا قيل لأهل الغفلة والإنكار: ماذا أنزل ربكم، على قلوب أولياء زمانكم؛ من المواهب وأسرار الخصوصية؟ قالوا: أساطير الأولين، ثم عَوَّقُوا الناس عن الدخول في طريقهم؛ لتطهير قلوبهم، فيحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة؛ حيث ماتوا مصرين على الكبائر وهم لا يشعرون. ويحملون من أوزار الذين يضلونهم عن طريق الخصوص بغير علم، بل جهلاً وعنادًا وحسدًا، ألا ساء ما يزرون.
قلت: الذي أتلف العوام عن الدين ثلاثة أصناف: علماء السوء، وفقراء السوء - وهم أهل الزوايا والنسبة -، وقراء السوء؛ لأن هؤلاء هم المقتدى بهم، والمنظور إليهم، فإذا رأوهم أقبلوا على الدنيا، وقصروا في الدين، تبعوهم على ذلك؛ فضلوا معهم، فقد ضلوا وأضلوا، وإذا أنكروا على أولياء الله، ومكروا بهم، اقتدوا بهم في ذلك فيتولى الله حفظ أوليائه، ويهدم مكرهم؛ قال تعالى: { فأتى الله بنيانهم من القواعد }... الآية، فإذا كان يوم القيامة أبعدهم عن حضرته، وأسكنهم مع عوام خلقه. فإذا أنكروا ما فعلوا في الدنيا، يقال لهم: { بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون }، فيخلدون في عذاب القطيعة والحجاب، فبئس مثوى المتكبرين. والله تعالى أعلم.
ثمَّ ذكر اضدادهم فقال: { وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ }