التفاسير

< >
عرض

وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ تَٱللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ
٥٦
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ
٥٧
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ
٥٨
يَتَوَارَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ مِن سُوۤءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي ٱلتُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
٥٩
لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ مَثَلُ ٱلسَّوْءِ وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٦٠
-النحل

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: الضمير في { يجعلون } للكفار، وفي { يعملون } لهم، أو للأصنام. و { لهم ما يشتهون }: يجوز أن يكون { ما يشتهون } مبتدأ، وخبره: { لهم }، وأن يكون مفعولاً بفعل مضمر، أي: ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون، وأن يكون معطوفًا على البنات، وهذا منعه البصريون؛ لاتحاد الفاعل والمفعول، وهو الواو، وضمير لهم في الغيبة، فلا يقال: زيد ضربه، وإنما يقال: ضرب نفسه، ولا يقال: أنا ضربتني، ويجوز ذلك في أفعال القلوب. وقال البيضاوي: ولا يبعد تجويزه في المعطوف، كما في الآية.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { ويجعلون } أي: كفار العرب { لما لا يعلمون } إلاهيتهم ببرهان ولا حجة، وهم الأصنام. أو: لِمَا لا علم لهم من الجمادات التي يعبدونها، { نصيبًا مما رزقناهم } من الزرع والأنعام، بقولهم: هذا لله وهذا لشركائنا، { تالله لتُسألُنَّ }؛ سؤال توبيخ وعتاب { عما كنتم تفترون } من أنها آلهة بالتقرب إليها، أو عما كنتم تفترون على الله من أنه أَمَرَكم بذلك.
{ ويجعلون لله البنات }؛ من قولهم: الملائكة بنات الله، وكانت خزاعة وكنانة يقولون ذلك. { سبحانه }؛ تنزيهًا له عن ذلك، { ولهم ما يشتهون } أي: ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون، وهم البنون، والمعنى: أنهم يجعلون لله البنات التي يكرهونها - وهو منزه عن الولد -، ويختارون لأنفسهم ما يشتهون من الذكور. { وإذا بُشِّرَ أحدُهم بالأنثى } أي: أُخبر بولادتها عنده، { ظلّ } أي صار { وجههُ مُسودًّا }: متغيرًا تغير مغتم؛ من الكآبة والحياء من الناس، { وهو كظيم }: ممتلئ غيظًا، { يتوارى }؛ يختفي { من القوم } أي: من قومه؛ حياء منهم، { من سوء ما بُشِّرَ به }؛ من قُبِح المبشر به، متفكرًا في نفسه، { أيُمسكُه على هُونٍ } أي: يتركه، عنده، على ذل وهوان، { أم يَدُسه في التراب } أي: يخفيه فيه ويئده، وهي: الموؤودة، وتذكير الضمير؛ للفظ "ما"، { ألاَ ساءَ }: بئس { ما يحكمُون } حكمهم هذا؛ حيث نسبوا لله تعالى البنات، التي هي عندهم بهذا المحل.
{ للذين لا يؤمنون بالآخرة مَثَلُ السَّوْءِ } أي: صفة السوء، وهي: الحاجة إلى الولد المنادية بالموت، واستبقاء الذكور؛ استظهارًا بهم، وكراهة البنات ووأدهن خشية الإملاق، { ولله المثَلُ الأعلى } أي: الصفة العليا، وهو الوجوب الذاتي والغنى المطلق، والجود الفائق، والنزاهة عن صفات المخلوقين، والوحدانية في الذات والصفات والأفعال. وقال الأزهري: المثل الأعلى، أي: التوحيد والخلق والأمر، ونفى كل إله سواه. ويتَرجم عن هذا كله بقول: "لا إله إلا الله". هـ. { وهو العزيز } في ملكه، { الحكيم } في صنعه، أي: المنفرد بكمال القدرة والحكمة، فالقدرة مُظهرة للأشياء في أوقاتها، والحكمة تسترها برداء أسبابها وشروطها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي لأهل التوحيد الكامل أن يتنزهوا عن شبهة الشرك في أعمالهم وأموالهم، فلا يشركون فيما رزقهم الله، من الأموال، أحدًا من المخلوقين، يجعلون لهم نصيبًا في أموالهم، على قصد الحفظ، أو إصلاح النتاج، كما تفعله العامة مع الصالحين، فإن ذلك مما يقدح في صفاء التوحيد؛ إذ لا فاعل سواه. وقوله تعالى: { وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى... } الآية، فيه ذم وتهديد لمن يكره البنات، وينقبض من زيادتهن؛ لأن فيه نزغة من فعل الجاهلية، بل ينبغي إظهار البسط والبرور بهن أكثر من الذكور، ولا شك أن النفقة عليهن أكثر ثوابًا من الذكور، وفي الحديث:
"مَنِ ابْتُلِيَ بهذه البَنَاتِ، فأحْسَنَ إليْهِنَّ، كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّار" . إلى غير ذلك من أحاديث كثيرة تُرغب في الإحسان إليهن. والله تعالى أعلم.
ثمَّ ذكر حكمة امهاله تعالى للكفار فقال: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ... }