البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
يقول الحقّ جلّ جلاله: { فإِذا قرأتَ القرآنَ }؛ أردت قراءته، كقوله: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } [المَائدة: 6]، { فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } أي: فسل الله أن يعيذك من وسواسه؛ لئلا يوسوسك في القراءة، فيحرمك حلاوة التلاوة؛ فإنه عدو لا يحب لابن آدم الربح أبدًا، والجمهور على أنه مستحق عند التلاوة، وعن عطاء: أنه واجب. ومذهب مالك: أنه لا يتعوذ في الصلاة. وعند الشافعي وأبي حنيفة: يتعوذ في كل ركعة؛ تمسكًا بظاهر الآية؛ لأن الحكم المرتب على شرط يتكرر بتكرره، وأخذ مالك بعمل أهل المدينة في ترك التعوذ في الصلاة. وهو تابع للقراءة في السر والجهر، وعن ابن مسعود: قرأتُ على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال: "قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" .
ثم قال تعالى: { إِنه ليس له سلطانٌ } أي: تسلط وولاية { على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } أي: لا تسلط له على أولياء الله المؤمنين به، والمتوكلين عليه، فإنهم لا يطيعون أوامره، ولا يصغون إلى وساوسه، إلا فيما يحتقر، على ندور وغفلة. { إِنما سلطانه } أي: تَسَلُّطُهُ { على الذين يتولونه }: يحبونه ويطيعونه، { والذين هم به } أي: بالله، أو: بسبب الشيطان، { مشركون }؛ حيث حملهم على الشرك فأطاعوه.
الإشارة: الاستعاذة الحقيقية من الشيطان هي: الغيبة عنه في ذكر الله أو شهوده، فلا ينجح في دفع الشيطان إلا الفرار منه إلى الرحمن. قال تعالى: { فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } [الذَّاريات: 50]. فإن الشيطان كالكلب، كلما اشتغلت بدفعه قوي نبحه عليك، فإما أن يخرق الثياب، أو يقطع الإهاب، فإذا رفعت أمره إلى مولاه كفه عنك. وقد قال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه: عداوة العدو حقًا هو اشتغالك بمحبة الحبيب حقا، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو، فاتتك محبة الحبيب، ونال مراده منك. هـ.
فالعاقل هو الذي يشتغل بذكر الله باللسان، ثم بالقلب، ثم بالروح، ثم بالسر، فحينئذ يذوب الشيطان ولا يبقى له أثر قط، أو يذعن له ويسلم شيطانه، فإنما حركه عليك؛ ليوحشك إليه. وفي الحكم: "إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده". فإذا تعلقْتَ بالقوي المتين، هرب عنك الشيطان اللعين. وسيأتي مزيد كلام إن شاء الله عند قوله تعالى: { { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ... } [فَاطِر: 6] الآية. وبالله التوفيق.
ومن أقبح وسوسة الشيطان الطعن في القرآن كما أنان ذلك الحق