التفاسير

< >
عرض

مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً
١٥
وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً
١٦
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً
١٧
-الإسراء

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحقّ جلّ جلاله: { مَن اهتدى } وآمن بالله وبما جاءت به الرسل { فإِنما يهتدي لنفسه }؛ لأن ثواب اهتدائه له، لا يُنجي اهتداؤه غيره، { ومن ضلَّ } عن طريق الله { فإِنما يضلُّ عليها }؛ لأن إثم إضلاله على نفسه، لا يضر به غيره في الآخرة, { ولا تزر } أي: لا تحمل نفس { وازرةٌ }؛ آثمة { وِزرَ } نفس { أخرى } أي: ذنوب نفس أخرى، بل إنما تحمل وزرها، إلا من كان إمامًا في الضلالة، فيحمل وزره ووزر مَن تبعه، على ما يأتي في آية أخرى: { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [العنكبوت: 13].
ومن كمال عدله تعالى: أنه لا يُعذِّب حتى يُنذر ويُعذر على ألسنة الرسل، كما قال تعالى: { وما كنا مُعذبين } أحدًا في الدنيا ولا في الآخرة { حتى نبعث رسولاً } يُبين الحجج ويمهد الشرائع، ويلزمهم الحجة.
وفيه دليل على أن لا حُكم قبل الشرع، بل الأمر موقوف إلى وروده، فمن بلغته دعوته، وخالف أمره، واستكبر عن أتباعه، عذبناه بما يستحقه. وهذا أمر قد تحقق بإرسال آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء الكرام - عليهم السلام - في جميع الأمم، قال تعالى:
{ { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً } [النحل: 36]، { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [فاطر: 24]، فإن دعوتهم إلى الله قد انتشرت، وعمت الأقطار، واشتهرت، انظر إلى قول قريش الذين لم يأتهم نبي بعد إسماعيل عليه السلام: { مَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِى ٱلْمِلَّةِ ٱلآخِرَةِ } [ص: 7]؛ فإنه يُفهم منه أنهم سمعوه في الملة الأولى، فمن بلغته دعوة أحد منهم، بوجه من الوجوه فقصَّر، فهو كافر مستحق للعذاب. فلا تغتر بقول كثير من الناس بنجاة أهل الفترة، مع إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن آباءهم، الذين مضوا في الجاهلية، في النار، وأن ما يدحرج من الجُعَل، خير منهم، إلى غير ذلك من الأخبار. قاله البقاعي.
وقال الإمام أبو عبد الله الحليمي - أحد أجلاء الشافعية، وعظماء أئمة الإسلام - في أول منهاجه، في باب: "من لم تبلغه الدعوة": وإنما قلنا: إن من كان منهم عاقلاً مميزًا إذا رأى ونظر، إلا أنه لا يعتقد دينًا فهو كافر؛ لأنه، وإن لم يكن سمع دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلا شك أنه سمع دعوة أحد من الأنبياء قبله، على كثرتهم وتطاول أزمان دعوتهم، ووفور مُددِ الذين آمنوا واتبعوهم، والذين كفروا بهم وخالفوهم، فإنَّ الخبر قد يبلغ على لسان المخالف، كما يبلغ على لسان الموافق، وإذا سمع آيَّةَ دعوة كانت إلى الله تعالى، فترك أن يستدل بعقله، كان مُعْرِضًا عن الدعوة فكفر، والله أعلم. وإن أمكن أن يكون لم يسمع قط بدين، ولا بدعوة نبي، ولا عرف أن في العالم من يُثبت إلهًا، وما نرى أن ذلك يكون، فأمره على الاختلاف، يعني: عند من يُوجب الإيمان بمجرد العقل، ومن لا يُوجبه إلا بانضمام النقل. هـ.
وقال الزركشي، في آخر باب النيات، من شرحه على المنهاج: وقد أشار الشافعي إلى عسر تصور عدم بلوغ الدعوة، حيث قال: وما أظن أحدًا إلا بلغته الدعوة، إلا أن يكون قوم من وراء النهر. وقال الدميري: وقال الشافعي: ولم يبق أحد لم تبلغه الدعوة. انتهى؛ على نقل شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه.
ثم قال تعالى: { وإِذا أردنا أن نُهلك قريةً } أي: تعلقت إرادتنا بإهلاكها؛ لإنفاذ قضائنا السابق، ودنا وقتُ إهلاكها، { أمرنا مُتْرفيها }؛ منعميها، بمعنى رؤسائها؛ بالطاعة على لسان رسول بعثناه إليهم، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده، فإن الفسق هو الخروج عن الطاعة، لقوله: { ففسقُوا فيها }؛ خرجوا عن أمرنا. وقيل: أمرناهم: ألهمناهم الفسق وحملناهم عليه، أو: جعلنا لهم أسباب حملهم على الفسق؛ بأن صببنا عليهم من النعم ما أبطرهم، وأفضى بهم إلى الفسوق، { فحقَّ عليها القولُ }؛ وجب عليها كلمة العذاب السابق بحلوله، أو بظهور معاصيهم. { فدمرناها تدميرًا }؛ أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريبها. { وكم أهلكنا } أي: كثيرًا أهلكنا { من القُرون } أي: الأمم { من بعد نوح }؛ كعاد وثمود وأصحاب الأيكة، { وكفى بربك بذنوب عباده خبيرًا بصيرًا }؛ عالمًا ببواطنها وظواهرها، فيعاقب عليها أو يعفو. وبالله التوفيق.
الإشارة: من اهتدى إلى حضرة قدسنا فإنما يهتدي لينعم نفسه بأسرار قدسنا، ومن ضل عنها فإنما يضل عليها؛ حيث حرمها لذيذ المعرفة. فإن كان في رفقة السائرين، ثم غلبه القضاء، فلا يتعدى وبال رجوعه إلى غيره، بل ما كان يصل إليه من المدد يرجع إلى أصحابه، وما كنا معذبين أحدًا؛ بإسدال الحجاب بيننا وبينه، حتى نبعث من يُعَرِّف بنا، ويكشف الحجاب بيننا وبين من يريد حضرتنا. والمراد بالحجاب: حجاب الوهم؛ بإثبات حس الكائنات، فلو انهتك حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان، ولو أشرق نورُ الإيقان لغطى وجودَ الأكوان. وإذا أردنا أن نتلف قلوبًا أمرنا أربابها بالتنعم بالحظوظ والشهوات، فخرجوا عن طريق المجاهدة والرياضة، فحق عليها القول بغم الحجاب، فدمرناها تدميرًا، أي: تركناها تجول في أودية الخواطر والشكوك، فتلفت وهلكت، نعوذ بالله من شر الفتن ودرك المحن.
وسبب الهلاك هو حب الدنيا