التفاسير

< >
عرض

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً
١٠٣
ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً
١٠٤
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْناً
١٠٥
ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَٱتَّخَذُوۤاْ آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً
١٠٦
-الكهف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { أعمالاً }: تمييز، و { في الحياة }: متعلق بسعيهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { قل } يا محمد: { هل نُنبئُكم } يا معشر الكفرة { بالأخسرين أعمالاً } أي: بالذين خسروا من جهة أعمالهم؛ كصدقةٍ، وعتق، وصلة رحم، وإغاثة ملهوف، حيث عملوها في حال كفرهم فلم تُقبل منهم، وهم: { الذين ضلَّ سعيُهُم } أي: بطل بالكلية { في الحياة الدنيا } أي: بطل ما سَعْوا فيه في الحياة الدنيا وعملوه، { وهم يَحسبون }: يظنون { أنهم يُحسنُون صُنعًا } أي: يأتون بها على الوجه الأكمل، وقد تركوا شرط صحتها وكمالها، وهو الإيمان، واختلف في المراد بهم، فقيل: مشركو العرب، وقيل: أهل الكتابين، ويدخل في الأعمال ما عملوه في الأحكام المنسوخة المتعلقة بالعبادات. وقيل: الرهبان الذين يحبسون أنفسهم في الصوامع ويحْملونَها على الرياضات الشاقة.
والمختار: العموم في كل من عمل عملاً فاسدًا، يظن أنه صحيح من الكفرة، بدليل قوله: { أولئك الذين كفروا بآيات ربهم }: بدلائل التوحيد، عقلاً ونقلاً، { ولقائه }: البعث وما يتبعه من أمور الآخرة، { فحَبِطَتْ } لذلك { أعمالُهم } المعهودة حبوطًا كليًا، { فلا نُقيم لهم } أي: لأولئك الموصوفين بحبوط الأعمال، { يومَ القيامة وزنًا } أي: فنُهينُهم، ولا نجعل لهم مقدارًا واعتبارًا؛ لأن مدار التكريم: الأعمالُ الصالحة، وقد حبطت بالمرة؛ قال صلى الله عليه وسلم:
"يُؤتى بالرَّجُل السَّمِين العَظِيم يَوْمَ القِيَامَةِ، فلاَ يَزنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ" ؛ اقْرَأوا إن شِئْتُمْ: { فلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْنًا }. أو: لا نضع لأجل وزن أعمالهم ميزانًا؛ لأن الكفر أحبطها. أو: لا نقيم لهم وزنًا نافعًا. قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: يأتي أناسٌ بأعمالهم يوم القيامة، هي عندهم في العِظَم كجبال تهامة، فإذا وزنوها لا تزن شيئًا، فذلك قوله: { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا }.
ثم بيَّن مآل كفرهم بعد أن بيَّن مآل أعمالهم، فقال: { ذلك } الصنف الذين حبطت أعمالهم { جزاؤُهم جهنمُ }، أو الأمر ذلك، ثم استأنف بقوله: { جزاؤُهم جهنمُ بما كفروا } أي: بسبب كفرهم المتضمن لسائر القبائح، التي من جملتها ما تضمنه قوله: { واتَّخذُوا آياتي } الدالة على توحيدي أو كلامي، أو معجزاتي، { ورسلي هُزُوًا } أي: مهزوًا بهم، فلم يقتنعوا بمجرد الكفر، بل ارتكبوا ما هو أعظم، وهو الاستهزاء بالآيات والرسل. عائذًا بالله من ذلك.
الإشارة: كل آية في الكفار تجر ذيلها على الغافلين، فكل من قنع بدون عبادة فكرة الشهود والعيان، ينسحب عليه من طريق الباطن أنه ضل سعيه، وهو يحسب أنه يُحسن صُنعًا، فلا يقام له يوم القيامة وزن رفيع، فتنسحب الآية على طوائف، منها: منْ عَبَدَ اللهَ لطلب المنزلة عند الناس، وهذا عين الرياء؛ رُوي عن عثمان أنه قال على المنبر: (الرياء سبعون بابًا، أهونها مثل نكاح الرجل أمه). ومنها: من عَبَدَ الله لطلب العوض والجزاء عند الخواصِّ، ومنها: من عبد الله لطلب الكرامات وظهور الآيات، ومنها: من عبد الله بالجوارح الظاهرة، وحجب عن الجوارح الباطنة، وهي عبادة القلوب، فإن الذرة منها تعدل أمثال الجبال من عبادة الجوارح، ومنها: من وقف مع الاشتغال بعلم الرسوم، وغفل عن علم القلوب، وهو بطالة وغفلة عند المحققين، ومنها من قنع بعبادة القلوب، كالتفكر والاعتبار، وغفل عن عبادة الأسرار، كفكرة الشهود والاستبصار، والحاصل: أن كل من وقف دون الشهود والعيان فهو بطّال، وإنْ كان لا يشعر، وإنما ينكشف له هذا الأمر عند الموت وبعده، وسيأتي عند قوله تعالى:
{ { وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } [الزُّمَر: 47]، زيادة بيان على هذا إن شاء الله. فقد يكون الشيء عبادة عند قوم وبطالة عند أخرين؛ حسنات الأبرار سيئات المقربين. ولا يفهم هذا إلا من ترقى عن عبادة الجوارح إلى عبادة القلوب والأسرار. وبالله التوفيق.
ثمَّ ذكر ضدَّ من تقدم من الكفرة