التفاسير

< >
عرض

وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً
٢٨
-الكهف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { ولا تعد }: نهي مجزوم بحذف الواو، و { عيناك }: فاعل، و { تريد }: حال من الكاف، أو من فاعل { تَعْدُ }.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { واصبرْ نفسك } أي: احبسها { مع الذين يدعون ربهم } أي: يعبدونه { بالغداةِ والعَشِيِّ }، قيل: الصلوات الخمس، فالغداة: الصبح، والعَشِيِّ: الظهر وما بعده، وقيل: الصبح والعصر، قلت: والأظهر أنها الصلاة التي كانوا يُصلونها قبل فرض الصلاة، وهي ركعتان بالغداة والعشي. قال ابن عطية: ويدخل في الآية مَنْ يدعو في غير صلاة، ومن يجمع لمذاكرة علم، وقد رَوى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لَذِكْرُ اللهِ بالغَدَاةِ والعَشِيِّ أَفْضَلُ مِنْ حَطْمِ السُّيُوف فِي سَبيل اللهِ، ومِنْ إعْطَاءِ المَال سحا
"
. وقيل: { يدعون ربهم } في جميع الأوقات، وفي طرفَيْ النهار، والمراد بهم فقراء المؤمنين؛ كعمار وصهيب وخباب وبلال، رُوي أن رؤساء الكفرة من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك، وقالوا: إن ريح جِبَابِهم تؤذينا، فنزلت الآية. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت خرج إليهم وجلس بينهم، وقال: "الحمدُ لله الذي جَعَلَ في أمتي مَنْ أُمرْتُ أنْ أصبرْ نَفْسِي معه" . وقيل: نزلت في بيان أهل الصُّفَّة، وكانوا نحو سبعمائة، فتكون الآية مدنية.
ثم وصفهم بالإخلاص، فقال: { يُريدون وجهه } أي: معرفة ذاته، لا جنة ولا نجاة من نار، { ولا تَعْدُ عيناك عنهم } أي: لا تجاوزهم بنظرك إلى غيرهم، من عداه: إذا جاوزه، وفي الوجيز: ولا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة، { تُريد زينةَ الحياةِ الدنيا } أي: تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء وأصحاب الدنيا.
{ ولا تُطِعْ } في تنحية الفقراء عن مجلسك { مَن أغفلنا قلبَه عن ذِكْرِنا } أي: جعلناه غافلاً عن الذكر وعن الاستعداد له، كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراء عن مجلسك، فإنهم غافلون عن ذكرنا، على خلاف ما عليه المؤمنون من الدعاء في مجامع الأوقات، وفيه تنبيه على أن الباعث على ذلك الدعاء غفلة قلبية عن جناب الله - سبحانه - حتى خفي عليه أن الشرف إنما هو بتحلية القلب بالفضائل، لا بتحلية الجسد بالملابس والمآكل. { واتَّبَعَ هواه }: ما تهواه نفسه، { وكان أمره فُُرطًا }: ضياعًا وهلاكًا، وهو من التفريط والتضييع، أو من الإفراط والإسراف، فإن الغفلة عن ذكر الله - تعالى - تُؤدي إلى اتباع الهوى المؤدي إلى التجاوز والتباعد عن الحق والصواب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية حثٌّ على صحبة الفقراء والمُكْث معهم، وفي صحبتهم أسرار كبيرة ومواهب غزيرة، إذ بصحبتهم يَكتسبُ الفقير آداب الطريق، وبصحبتهم يقع التهذيب والتأديب، حتى يتأهل لحضرة التقريب، وبصحبتهم تدوم حياة الطريق، ويصل العبد إلى معالم التحقيق، وفي ذلك يقول الشيخ أبو مدين رضي الله عنه:

مَا لَذّةُ العَيْشِ إلا صُحبة الفُقرا هُمُ السَّلاَطِينُ والسَّادَاتُ والأُمَرَا
فاصْحَبْهُمُ وتَأَدَّبْ فِي مَجَالِسِهِم وَخَلِّ حظَّكَ مَهْمَا خَلَّفُوكَ وَرَا

إلى آخر كلامه.
وقوله تعالى: { واصبر نفسك } قال القشيري: لم يقل: واصبر قلبك؛ لأن قلبه كان مع الحق تعالى، فأمره بصحبة الفقراء جَهْرًا بجهر، واستخلص قلبه لنفسه سِرًا بِسرٍّ. هـ. قال الورتجبي: اصبر نفسك مع هؤلاء الفقراء، العاشقين لجمالي، المشتاقين إلى جلالي، الذين هم في جميع الأوقات يسألون متى لقاء وجهي الكريم، ويريدون أن يطيروا بجناح المحبة إلى عالم وَصْلي، حتى يكونوا مُتسلين بصحبتك عن مقام الوصال، وفي رؤيتهم لك رؤية ذلك الجمال. هـ.
وقوله تعالى: { يريدون وجهه }، بيَّن أن دعاءهم وسؤالهم إنما هو رؤيته ولقاؤه، شوقًا إليه ومحبة فيه، من غير تعلق بغيره، أو شُغل بسواه، بل همتهم الله لا غيره، وإِلاَّ لَمَا صدق قصر إرادتهم عليه. قال في الإحياء: من يعمل اتقاء من النار خوفًا، أو رغبة في الجنة رجاء، فهو من جملة النيات الصحيحة؛ لأنه ميل إلى الموعود في الآخرة، وإن كان نازلاً بالإضافة إلى قصد طاعة الله وتعظيمه لذاته ولجلاله، لا لأمرٍ سواه. ثم قال: وقول رويم: الإخلاص: ألا يريد صاحبه عليه عوضًا في الدارين، هو إشارة لإخلاص الصدِّيقين، وهو الإخلاص المطلق، وغيره إخلاص بالإضافة إلى حظوظ العاجلة. هـ. من الحاشية.
ثمَّ أمر بالصدع بالحق