التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا
١
قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً
٢
مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً
٣
وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً
٤
مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً
٥
-الكهف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { قَيّمًا }: حال من الكتاب، والعامل فيه: "أنزل"، ومنعه الزمخشري؛ للفصل بين الحال وذي الحال، واختار أن العامل فيه مضمر، تقديره: جعله قيّمًا، و "لينذر": يتعلق بأنزل، أو بقيّمًا. والفاعل: ضمير الكتاب، أو النبي صلى الله عليه وسلم، و "بأسًا": مفعول ثان، وحذف الأول، أي: لينذر الناس بأسًا، كما حذف الثاني من قوله: { ويُنذر الذين قالوا... } الخ؛ لدلالة هذا عليه، و { مِن عِلْم }: مبتدأ مجرور بحرف زائد، أو فاعل بالمجرور؛ لاعتماده على النفي، و "كلمة": تمييز.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { الحمدُ لله } أي: الثناء الجميل حاصل لله، والمراد: الإعلام بذلك؛ للإيمان به، أو الثناء على نفسه، أو هما معًا. ثم ذكر وجه استحقاقه له، فقال: { الذي أَنزل على عبده الكتابَ } أي: الكتاب الكامل المعروف بذلك من بين سائر الكتب، الحقيق باختصاص اسم الكتاب، وهو جميع القرآن. رتَّب استحقاق الحمد على إنزاله؛ تنبيهًا على أنه أعظم نعمائه، وذلك لأنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد، والداعي إلى ما به ينتظم صلاح المعاش والمعاد.
وفي التعبير عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبد، مضافًا إلى ضمير الجلالة تنبيه على بلوغه صلى الله عليه وسلم إلى معاريج العبادة وكمال العبودية أقصى غاية الكمال، حيث كان فانيًا عن حظوظه، قائمًا بحقوقه، خالصًا في عبوديته لربه.
{ ولم يجعلْ له } أي: للكتاب { عِوَجًا }؛ شيئًا من العوج، باختلافٍ في اللفظ، وتناقض في المعنى، وانحراف في الدعوة. قال القشيري: صانه عن التناقض والتعارض، فهو كتابٌ عزيزٌ من ربِّ عزيز، ينزل على عَبْدٍ عزيز.
قَيّمًا: مستقيمًا متناهيًا في الاستقامة، معتدلاً لا إفراط فيه ولا تفريط، فهو تأكيد لما دل عليه نفي العوج، مع إفادته كون ذلك من صفاته الذاتية، حسبما تُنبئ عنه الصيغة. أو قَيّمًا بالمصالح الدينية والدنيوية للعباد، على ما ينبئ عنه ما بعده من الإنذار والتبشير، فيكون وصفًا له بالتكميل، بعد وصفه بالكمال، أو: قَيّمًا على ما قبله من الكتب السماوية، وشاهدًا بصحتها ومهيمنًا عليها. { ليُنذر }: ليُخوّف اللهُ تعالى به، أو الكتاب، والأول أوْلى؛ لتناسب المعطوفين بعده، أي: أنزل الكتاب لينذر بما فيه الذين كفروا { بأسًا }: عذابًا { شديداً من لدنه } أي: صادرًا من عنده، نازلاً من قِبَله، في مقابلة كفرهم وتكذيبهم.
{ ويُبشِّر } بالتشديد والتخفيف، { المؤمنين }: المصدقين به، { الذين يعملون } أي: العُمال { الصالحاتِ } التي تَنْبَثُّ في تضاعيفه { أنَّ لهم } أي: بأن لهم في مقابلة إيمانهم وأعمالهم { أجرًا حسنًا }، هو الجنة وما فيها من المثوبات الحسنى، { ماكثين فيه } أي: في ذلك الأجر { أبدًا } على سبيل الخلود. والتعبير بالمضارع في الصلة - أعني: الذين يعملون -؛ للإشعار بتجدد الأعمال الصالحات واستمرارها، وإجراء الموصول على الموصوف بالإيمان؛ إيماءً بأن مدار قبول الأعمال هو الإيمان.
وتقديم الإنذار على التبشير؛ لإظهار كمال العناية بزجر الكفار عما هم عليه، مع مراعاة تقديم التخلية على التحلية. وتكرير الإنذار بقوله تعالى: { ويُنذرَ الذين قالوا اتخذ اللهُ ولدًا }: متعلق بفرقة خاصة، ممن عمَّهُ الإنذار السابق، من مستحقي البأس الشديد؛ للإيذان بكمال فظاعة حالهم، لغاية شناعة كفرهم وضلالهم، أي: وينذر، من بين سائر الكفرة، هؤلاء المتفوهين بمثل هذه القولة العظيمة، وهم كفار العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله، واليهود القائلون: عزير ابن الله، والنصارى القائلون: المسيح ابن الله.
{ ما لهم به من عِلْمٍ } أي: ما لهم باتخاذه الولد شيء من علم أصلاً؛ لضلالهم وإضلالهم، { ولا لآبائهم } الذين قلدوهم، فتاهوا جميعًا في تيه الجهالة والضلالة، أو: ما لهم علم بما قالوا، أصواب أم خطأ، بل إنما قالوه؛ رميًا بقولٍ عن عمى وجهالة، من غير فكر ولا روية، كقوله تعالى:
{ { وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الأنعَام: 100]. أو: ما لهم علم بحقيقة ما قالوا، وبعِظَم رتبته في الشناعة، كقوله تعالى: { { وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ ٱلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } [مريَم: 88-90]، وهو الأنسب لقوله: { كَبُرتْ كلمةٌ } أي: عظمت مقالتهم هذه في الكفر والافتراء؛ لما فيها من نسبته سبحانه إلى ما لا يكاد يليق بجناب كبريائه؛ لما فيه من التشبيه والتشريك، وإيهام احتياجه تعالى إلى ولد يُعينه ويخلفه. فما أقبحها مقالة { تخرج من أفواههم } أي: يتفوهون بها من غير حقيقة ولا تحقيق لمعناها، { إن يقولون إِلا كذبًا }: ما يقولون في ذلك إلا قولاً كذبًا، لا يكاد يدخل فيه إمكان الصدق أصلاً.
الإشارة: من كملت عبوديته لله، وصار حُرًّا مما سواه، بحيث تحرر من رق الأكوان، وأفضى إلى مقام الشهود والعيان، أنزل الله على قلبه علم التحقيق، وسلك به منهاج أهل التوفيق، منهاجًا قيمًا، لا إفراط فيه ولا تفريط، محفوظًا في باطنه من الزيغ والإلحاد، وفي ظاهره من الفساد والعناد، قد تولى الله أمره وأخذه عنه، فهو على بينة من ربه فيما يأخذ ويذر. فإن أَذِنَ له في التذكير وقع في مسامع الخلق عبارتُه، وجليت إليهم إشارته، فبَشَّر وأنذر، ورغّب وحذّر، يُبشر أهل التوحيد والتنزيه بنعيم الجنان، وبالنظر إلى وجه الرحمن، ويُنذر أهل الشرك بعذاب النيران، وبالذل والهوان، نعوذ بالله من موارد الفتن.
ولما كانت قريش تتفوه بشيء من هذه الكلمات التي شنع الله على من تفوه بها