التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ سَرَباً
٦١
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَٰهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا نَصَباً
٦٢
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى ٱلصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَٰنُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ عَجَباً
٦٣
قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَٱرْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصاً
٦٤
فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً
٦٥
-الكهف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { بينهما }: ظرف مضاف إليه؛ اتساعًا، أو بمعنى الوصل، و { سَرَبًا }: مفعول ثان لاتخذ، و { إذ أوينا }: متعلق بمحذوف، أي: أخبرني ما دهاني حين أويتُ إلى الصخرة حتى لم أخبرك بأمر الحوت، فإني نسيتُ أن أذكر لك أمره. و { أن أذكره }: بدل من الهاء في { أنسانيه }؛ بدل اشتمال؛ للمبالغة، و { عجبًا }: مفعول ثان لاتخذ، وقيل: إن الكلام قد تم عند قوله: { في البحر }، ثم ابتدأ التعجب فقال: { عجبًا } أي: أَعْجَبُ عَجَبًا، وهو بعيد. قاله ابن جزي. قلت: وهذا البعيد هو الذي ارتكب الهبطي. و { قصصًا }: مصدر، أي: يقصان قصصًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: ثم إن موسى ويوشع - عليهما السلام - حملا حوتًا مشويًا وخُبزًا، وسارا يلتمسان الخضر، { فلما بلغا مَجْمَعَ بينهما }؛ بين البحرين، أو مجمع وصل بعضهما ببعض، وجدا صخرة هناك، وعندها عين الحياة، لا يصيب ذلك الماءُ شيئًا إلا حَيِيَ بإذن الله، وكانا وَصَلاَ إليها ليلاً، فناما، فلما أصاب السمكة رَوْحُ الماء وبردُه اضطرب في المِكْتَلِ، ودخل البحر، وقد كانا أَكَلاَ منه، وكان ذلك بعد استيقاظ يوشع، وقيل: توضأ عليه السلام من تلك العين، فانتضح الماء على الحوت، فحيى ودخل البحر، فاستيقظ موسى، وذهبا، و { نَسِيَا حوتَهما } أي: نسيا تفقد أمره وما يكون منه، أو نسي يوشع أن يعلمه، وموسى عليه السلام أن يأمر فيه بشيء، { فاتخذ } الحوت { سبيله } أي: طريقه { في البحر سَرَبًا }؛ مسلكًا كالطّاق، قيل: أمسك الله جرية الماء على الحوت فجمد، حتى صار كالطاق في الماء؛ معجزة لموسى أو الخضر - عليهما السلام -.
فلما جاوزا مجمع البحرين، الذي جُعل موعدًا للملاقاة، وسارا بقية ليلتهما ويومهما إلى الظهر، وجد موسى عليه السلام حَرَّ الجوع، فـ { قال لفتاه آتنا غداءنا } أي: ما نتغدى به، وهو الحوت، كما يُنبئ عنه الجواب، { لقد لَقِينا من سفرنا هذا نصبًا }: تعبًا وإعياء. قيل: لم يَنْصَبْ موسى ولم يَجُعْ قبل ذلك، ويدل عليه الإتيان بالإشارة، وجملة { لقد لقينا }: تعليل للأمر بإيتاء الغذاء، إما باعتبار أن النَّصَب إنما يعتري بسبب الضعف الناشئ عن الجوع، وإمَّا باعتبار ما في أثناء التغذي من استراحة مَّا.
{ قال } فتاه عليه السلام: { أرأيت إذ أوينا إِلى الصخرة } أي: التجأنا إليها ونِمنا عندها، { فإني نسيتُ الحوت } أي: أخبرني ما دهاني حتى لم أذكر لك أمر الحوت، فإني نسيتُ أن أذكر لك أمره، ومراده بالاستفهام تعجيب موسى عليه السلام مما اعتراه من النسيان، مع كون ما شاهده من العظائم التي لا تكاد تنسى، { وما أنسانيهُ إِلا الشيطانُ } بوسوسته الشاغلة له عن ذلك، { أن أذكره }، ونسبته للشيطان؛ هضمًا لنفسه، واستعمال الأدب في نسبة النقائص إلى الشيطان، وإن كان الكل من عند الله. وهذه الحالة، وإن كانت غريبة لا يعهد نسيانها، لكنه قد تعَوَدَّ بمشاهدة أمثالها من الخوارق مع موسى عليه السلام، وأَلِفَهَا قبل اهتمامه بالمحافظة عليها، أو لاستغراقه وانجذاب سره إلى جناب القدس، حتى غاب عن الإخبار بها.
{ قلت }: والظاهر أن نسيانه كان أمرًا إلهياً قهريًا بلا سبب، وحكمتُه ما لقي من النصب؛ لتعظُم حلاوة العلم الذي يأخذه عن الخضر عليه السلام، فإن المُساق بعد التعب ألذ من المساق بغير تعب، ولذلك: "حفت الجنة بالمكاره".
ثم قال: { واتخذ } الحوتُ { سبيلَه في البحر عَجَبًا }، فيه حذف، أي فحيى الحوت، واضطرب، ووقع في البحر، واتخذ سبيله فيه سبيلاً عجبًا، أو اتخاذًا عجبًا يُتعجب منه، وهو كون مسلكه كالطاق، { قال } موسى عليه السلام: { ذلك ما كنا نبغ } أي: ذلك الذي ذكرت من أمر الحوت هو الذي كُنا نطلبه؛ لكونه أمارة للفوز بالمرام، { فارتدَّا } أي: رجعا { على } طريقهما الذي جاءا منه، يَقُصَّان. يتبعان { آثارِهما قَصَصًا }، حتى أتيا الصخرة { فوجدا عبدًا من عبادنا }، التنكير؛ للتفخيم والإضافة؛ للتعظيم، وهو الخضر عليه السلام عند الجمهور، واسمه: بَلْيَا بن مَلْكَان يُعْصوا، والخضر لقب له؛ لأنه جلس على فروةٍ بيضاء فاهتزّت تحته خضراء، كما في حديث أبي هريرة - عنه - صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهد: سمي خضرًا؛ لأنه كان إذا صلى خضر ما حوله، ثم قال: وهو ابن عابر بن شالِخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وكان أبوه ملكًا. هـ. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قصة الخضر، فقال:
"كان ابن ملك من الملوك، فأراد أبوه أن يستخلفه من بعده، فأبى وهرب، ولحق بجزائر البحر، فلم يقدر عليه" . قيل إنه شرب من عين الحياة؛ فمُتع بطول الحياة.
رُوِيَ أن موسى عليه السلام حين انتهى إلى الصخرة رأى الخضر عليه السلام على طنْفَسَةٍ - أي: بساط - على وجه الماء، فسلم عليه. وعنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال:
"انتهى موسى إلى الخضر، وهو نائم مُسَجى عليه ثوب، فسلَّمَ عليه فاستوى جالسًا، وقال: عليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال موسى: من أخبرك أني نبي بني إسرائيل؟ قال: الذي أدراكَ بي، ودلك عليَّ"
. قال تعالى في حق الخضر: { آتيناه رحمةً من عندنا }، هي الوحي والنبوة، كما يُشعر به تنكير الرحمة، وإضافتها إلى جناب الكبرياء، وقيل: هي سر الخصوصية، وهي الولاية. { وعلَّمناه من لَّدُنَّا عِلْمًا } خاصًا، لا يكتنه كُنْهه، ولا يُقدر قدره، وهو علم الغيوب، أو أسرار الحقيقة، أو علم الذات والصفات، علمًا حقيقيًا. فالخضر عليه السلام قيل: إنه نبي؛ بدليل قوله فيما يأتي: { وما فعلته عن أمري }، وقيل: وَلِيٌّ، واخْتلف: هل مات، أو هو حي؟ وجمهور الأولياء: أنه حي، وقد لقيه كثيرٌ من الصلحاء والأولياء، حتى تواتر عنهم حياته. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إنما صار الحوت دليلاً لسيدنا موسى عليه السلام بعد موته وخروجه عن إلفه، ثم حيى حياة خصوصية لَمَّا أنفق عليه من عين الحياة، كذلك العارف لا يكون دالاً على الله، وإمامًا يقتدى به حتى يموت عن شهود حسه، ويخرق عوائد نفسه، ويفنى عن بشريته، ويبقى بربه، حينئذ تحيا روحه بشهود عظمة ربه، ويصير إمامًا ودليلاً موصلاً إليه، ويَظهر منه خرق العوائد، كما ظهر من الحوت، حيث أمسك عن الماء الجرية فصار كالطَّاق، وذلك اقتدار، وإلى ذلك تشير أحوال الخضر، فكان الحوت مظهرًا لحاله في تلك القصة. قاله في الحاشية بمعناه.
وقال قبل ذلك في قوله: واتخذ سبيله في البحر عَجَبًا: أي اتخذ الحوتُ، وجوِّزَ كونُ فاعلِ (اتخذ): موسى، أي: اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبًا وخرقَ عادةٍ؛ بأن مشى على الماء في طريق الحوت، حتى وجد الخضر على كبد البحر. ثم قال: وعلى الجملة: فالقضية تشير من جهة الخضر: للاقتدار وإسقاط الأسباب، ومن جهة موسى: لإثبات الأسباب؛ حكمة، وحالة الاقتدار أشرف، وصاحب الحكمة أكمل ونفعه عام، بخلاف الآخر، فإن نفعه خاص. هـ.
وقوله تعالى: { وعلّمناه من لدُنَّا علمًا }، العلم اللدني: هو الذي يفيض على القلب من غير اكتساب ولا تعلم، قال عليه الصلاة والسلام:
"من عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللهُ علمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" . وذلك بعد تطهير القلب من النقائص والرذائل، وتفرغه من العلائق والشواغل، فإذا كمل تطهير القلب، وانجذب إلى حضرة الرب، فاضت عليه العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، منها ما تفهمها العقول وتدخل تحت دائرة النقول، ومنها ما لا تفهمها العقول ولا تحيط بها النقول، بل تُسلم لأربابها، من غير أن يقتدى بهم في أمرها، ومنها ما تفيض عليهم في جانب علم الغيوب؛ كمواقع القدر وحدوث الكائنات المستقبلة، ومنها ما تفيض عليهم في علوم الشرائع وأسرار الأحكام، ومنها في أسرار الحروف وخواص الأشياء، إلى غير ذلك من علوم الله تعالى. وبالله التوفيق.
ثمَّ تمَّم قصتهما بعد التقائهما