التفاسير

< >
عرض

قَالَ هَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً
٧٨
أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً
٧٩
وَأَمَّا ٱلْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً
٨٠
فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَـاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً
٨١
وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً
٨٢
-الكهف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { هذا }، الإشارة إما إلى نفس الفراق، كقولك: هذا أخوك، أو إلى الوقت الحاضر، أي: هذا وقت الفراق. أو إلى السؤال الثالث. و { بيني }: ظرف مضاف إليه المصدر؛ مجازًا، وقرئ بالنصب، على الأصل، و { غَصْبًا }: مصدر نوعي ليأخذ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { قال } الخضر عليه السلام: { هذا فراقُ بيني وبينك } فلا تصحبني بعد هذا، { سأنبئُك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا } أي: سأخبرك بالخبر الباطن، فيما لم تستطع عليه صبرًا؛ لكونه منكرًا في الظاهر، فالتأويل: رجوع الشيء إلى مآله، والمراد هنا: المآل والعاقبة، وهو خلاص السفينة من اليد العادية، وخلاص أَبَوَيْ الغلام من شره، مع الفوز بالبدل الأحسن، واستخراج اليتيمين للكنز، وفي جعل صلة الموصول عدم استطاعته، ولم يقل: "بتأويل ما رأيت"؛ نوعُ تعريضٍ به، وعناية عليه السلام.
ثم جعل يفسر له، فقال: { أما السفينة } التي خرقتُها، { فكانت لمساكين }: ضُعفاء، لا يقدرون على مدافعة الظلمة، فسماهم مساكين؛ لذلهم وضعفهم، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
"اللهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وأمتْنِي مِسْكِينًا، واحْشُرْنِي في زُمرةِ المَسَاكِينِ" . فلم يُرد مسكنة الفقر، وإنما أراد التواضع والخضوع، أي: احشرني مخبتًا متواضعًا، غير جبار ولا متكبر، وقيل: كانت السفينة لعشرة إخوة: خمسة زَمْنَى، وخمسة { يعملون في البحر }. وإسناد العمل إلى الكل، حينئذ، بطريق التغليب، ولأن عمل الوكيل بمنزلة الموكل. { فأردت أن أعيبها }: أجعلها ذات عيب، { وكان ورائهم ملكٌ } أي: أمامهم، وقرئ به، أو خلفهم، وكان رجوعهم عليه لا محالة، وكان اسمه: "جلندي بن كركر" وقيل: "هُدَدُ بن بُدَد"، قال ابن عطية: وهذا كله غير ثابت، يعني: تسمية الملك. { يأخذُ كلَّ سفينة } صالحة، وقرئ به، { غَصْبًا } من أصحابها.
وكان حق النظم أن يتأخر بيانُ إرادةِ التعيُّبِ عن خوف الغصب، فيقول: فكانت لمساكين، وكان ورائهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة، فأردت أن أعيبها؛ لأن إرادة التعيب مُسَبَّبٌ عن خوف الغصب، وإنما قدّم؛ للاعتناء بشأنها؛ إذ هي المحتاجة إلى التأويل، ولأن في التأخير فصلاً بين السفينة وضميرها، مع توهم رجوعه إلى الأقرب قال البيضاوي: ومبني ذلك - أي: التعيب وخوف الغصب - على أنه متى تعارض ضرران يجب حمل أهونهما بدفع أعظمهما، وهو أصل ممهد، غير أن الشرائع في تفاصيله مختلفة. هـ.
{ وأما الغلامُ } الذي قتلتُه { فكان أبواه مؤمنين } وقد طُبع هو كافرًا، وإنما لم يصرح بكفره؛ لعدم الحاجة إليه؛ لظهوره من قوله: { فخشينا أن يُرهقهما }: فخفنا أن يغشى الوالدَيْنِ المؤمنَيْنِ { طغيانًا } عليهما { وكفرًا } بنعمتهما؛ لعقوقه وسوء صنيعه، فَيُلْحِقُهُمَا شرًا، أو لشدة محبتهما له فيحملهما على طاعته، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر، فلعله يميلهما إلى رأيه فيرتدا. وإنما خشي الخضر عليه السلام منه ذلك؛ لأن الله سبحانه أعلمه بحاله وأطلعه على عاقبة أمره، وقرئ: "فخاف ربك"، أي: كره سبحانه كراهية من خاف سوء عاقبة الأمر. ويجوز أن تكون القراءة المشهورة من قول الله سبحانه على الحكاية، أي فكرهنا أن يرهقهما طغيانًا وكفرًا؛ { فأردنا أن يُبدلهما ربُّهما خيرًا منه }؛ بأن يرزقهما بدله ولدًا { خيرًا منه زكاةً }: طهارة من الذنوب والأخلاق الردية، { وأقربَ رُحْمًا } أي: رحمة وعطفًا، وفي التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليهما ما لا يخفى؛ من الدلالة على وصول الخير إليهما، فلذلك قيل: ولدت لهما جارية، تزوجها نبي من الأنبياء فولدت نبيًا، هدى الله تعالى على يديه أمة من الأمم، وقيل: ولدت سبعين نبيًا، وقيل: أبدلهما ابنًا مؤمنًا مثلهما.
{ وأما الجدارُ } الذي أقمتُ { فكان لغلامين يتيمين في المدينة } أي: القرية المذكورة فيما سبق، ولعل التعبير عنها بالمدينة؛ لإظهار نوع اعتداد بها، باعتداد ما فيها من اليتيمين وأبيهما الصالح، قيل: اسم اليتيمين أصرم وصريم. { وكان تحته كنزٌ لهما } من فضة وذهب، كما في الحديث، والذم على كنزهما إنما هو لمن لم يؤد زكاته، مع أن هذه شريعة أخرى. قال ابن عباس: (كان لوحًا من ذهب، مكتوب فيه: عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن؟ وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب؟ وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله، محمد رسول الله). وقيل: كانت صحفًا فيها علم مدفون.
{ وكان أبوهما صالحًا }، فيه تنبيه على أن سَعْيَهُ في ذلك كان لصلاح أبيهما، وفيه دليل على أن الله تعالى يحفظ أولياءه في ذريتهم، قيل: كان بينهما وبين الأب الذي حُفظا به سبعة أجداد. قال محمد بن المنكدر: (إن الله تعالى ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده، ومَسربته التي هو فيها، والدويرات التي حولها، فلا يزالون في حفظ الله وستره). وكان سعيد بن المسيب يقول لولده: إني لأزيد في صلاتي من أجلك، رجاء أن أُحْفَظَ فيك، ويتلو هذه الآية. وفي الحديث:
"ما أحسن أحدٌ الخلافة في ماله إلا أحسن الله الخلافة في تركته" . ويؤخذ من الآية: القيام بحق أولاد الصالحين؛ إذ قام الخضر عليه السلام بذلك.
{ فأراد ربك } أي: مالكك ومُدبر أمرك. وفي إضافة الرب إلى ضمير موسى عليه السلام، دون ضميرهما، تنبيه له عليه السلام على تحتم كمال الانقياد، والاستسلام لإرادته سبحانه، وَوُجوب الاحتراز عن المناقشة فيما برز من القدرة في الأمور المذكورة وغيرها. أراد { أن يبلغا أشُدَّهما }: حُلُمَهُمَا وكمالَ رأيِهِمَا، { ويستخرجا كنزهما } من تحت الجدار، ولولا أني أقمته لانقض، وخرج الكنز من تحته، قبل اقتدارهما على حفظ المال وتنميته، وضاع بالكلية؛ { رحمةً من ربك } مصدر في موضع الحال، أي: يستخرجا كنزهما مَرْحُومَيْنِ به من الله تعالى. أو: يتعلق بمضمر، أي: فعلت ما فعلت من الأمور التي شاهدتها، { رحمة من ربك }؛ بمن فُعل له أو به.
وقد استعمل الخضر عليه السلام غاية الأدب في هذه المخاطبة؛ فنسب ما كان عيبًا لنفسه، وما كان ممتزجًا له ولله تعالى؛ فإن القتل بلا سبب ظاهرهُ عيبٌ، وإبداله بخير منه خير، فأتى بضمير المشاركة، وما كان كمالاً محضًا، وهو إقامة الجدار، نسبه لله تعالى.
ثم قال: { وما فعلته } أي: ما رَأَيْتَ من الخوارق { عن أمري } أي: عن رأيي واجتهادي، بل بوحي إلهي مَلَكي، أو إلهامي، على اختلافٍ في نبوته أو ولايته، { ذلك } أي: ما تقدم ذكره من التأويلات، { تأويلُ } أي: مآل وعاقبة { ما لم تَسْطِع عليه صبرًا } أي: تفسير ما لم تستطع عليه صبرًا، فحذف التاء؛ تخفيفًا، وهو فذلكة لِمَا تقدم، وفي جعل الصلة غير ما مرَّ تكرير للتنكير عليه وتشديد للعتاب. قيل: كل ما أنكر سيدنا موسى عليه السلام على الخضر قد جرى له مثله، ففي هذه الأمثلة حجة عليه، وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة، نودي: يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت مطروح في اليم؟ فلما أنكر قتل الغلام وقيل له: أين إنكارك من وكْزك القبطي وقضائك عليه؟ فلما أنكر إقامة الجدار، نودي: أين هذا من رفعك الحجر لبنات شعيب دون أجر؟ والله تعالى أعلم.
رُوِيَ أنه قال له: لو صبرتَ لأتيتُ بك على ألفي عجيبة، كلها مما رأيت. ولما أراد موسى عليه السلام أن يفارقه، قال له: أوصني، قال: لا تطلب العلم لتحدث به، واطلبه لتعمل به. هـ.
وفي رواية: قال له: اجعل همتك في معادك، ولا تخض فيما لا يعنيك، ولا تأمن الخوفَ، ولا تيأس الأمْن، وتدبر الأمور في علانيتك، ولا تذر الإحسان في قدرتك. فقال له: زدني يا ولي الله، فقال: يا موسى إياك واللجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا تضحك، من غير عَجَب، ولا تُعير أحدًا بخطيئة بعد الندم، وابك على خطيئَتك يا ابن عمران، وإياك والإعجاب بنفسك، والتفريط فيما بقي من عمرك، فقال له موسى: قد أبلغت في الوصية، أتم الله عليك نعمته، وغمرك في رحمته، وكلأك من عدوه. فقال الخضر: آمين. فأوصني أنت يا نبي الله، فقال له موسى: إياك والغضب إلا في الله، ولا ترضى عن أحد إلا في الله، ولا تحب لدنيا ولا تبغض لدنيا، فإنك تخرج من الإيمان وتدخل في الكفر، فقال له الخضر: قد أبلغت في الوصية يا ابن عمران، أعانك الله على طاعته، وأراك السرور في أمرك، وحببك إلى خلقه، وأوسع عليك من فضله، قال موسى: آمين.
تنبيه: قد تقدم أن الجمهور على حياة الخضر عليه السلام. وسبب تعميره أنه كان على مقدمة ذي القرنين، فلما دخل الظلمات أصاب الخضر عين الحياة، فنزل فاغتسل منها، وشرب من مائها، فأخطأ ذو القرنين الطريق، فعاد، فلم يصادفها، قالوا: وإلياس أيضًا في الحياة، يلتقيان في كل سنة بالموسم، واحتج من قال بموت الخضر بقوله - عليه الصلاة والسلام-، كما في الصحيح، بعد صلاة العشاء:
"أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّه عَلَى رأسِ مِائَةِ سَنَةِ، لا يَبْقَى ممَنْ هُوَ اليَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدًا" ، ويجاب بأن الخضر عليه السلام كان في ذلك الوقت في السحاب، أو يخصص الحديث به؛ كما يخص بإبليس ومن عَمَّر من غيره. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الاعتراض على المشايخ موجب للبُعد عنهم، والبُعد عنهم موجب للبُعد عن الله، فلا وصول إلى الله إلا بالوصول إليهم مع التعظيم والاحترام؛ "سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه"؛ كما في الحِكَم. فالواجب على المريد، إذا كان بين يدي الشيخ، السكوت والتسليم والاحترام والتعظيم، إلا أن يأمره بالكلام، فيتكلم بآداب ووقار وخفض صوت، فإذا رأى منه شيئًا يخالف ظاهر الشريعة فليسلم له، ويطلب تأويله، فإن الشريعة واسعة، لها ظاهر وباطن، فلعله اطلع على ما لم يفهمه المريد.
وكذلك الفُقراء لا ينكر عليهم إلا ما كان محرّمًا مجمعًا على تحريمه، ولا تأويل فيه، كالزنا بالمعينة أو اللواط، وأما ما اختلف فيه، ولو خارج المذهب، فلا ينكر عليه، وكذلك ما فيه تأويل. هذا إن صحت عدالته، فقد قالوا: إن صحت عدالة المرء فليترك وما فعل. وتأمل قضية شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن المجذوب في مسألة الثور الذي أمر الفقراء بذبحه، فلما ذبحوه تبين أنه كان صدقة عليه، وكذلك غيره من أرباب الأحوال، يُلتمس لهم أحسن المخارج، فإن أحوالهم خضرية، وما رأينا أحدًا أولع بالإنكار فأفلح أبدًا. وبالله التوفيق.
ثم ذكر قصة ذي القرنين الذي وقع السؤال عنه مع الروح